أشار «نيك روبرتسون»، من شبكة «سي إن إن»، إلى أن الاتفاق المبرم في مارس 2023، بين السعودية، وإيران، والذي توسطت فيها الصين، حطم افتراضات الولايات المتحدة، بشأن هيمنتها السياسية والدبلوماسية القائمة منذ فترة طويلة في الشرق الأوسط، فيما يعد ضربة قاضية لمصير التنافس بين واشنطن وبكين. وفي حين تم الاعتراف بالديناميكيات، التي أدت إلى إبرام مثل هذا الاتفاق، لاسيما تضاؤل الدور الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة، والمصالح الاقتصادية والسياسية الصينية المتزايدة، والتحول السريع نحو نظام إقليمي متعدد الأقطاب؛ فإنه يُتوقع -في إثره- أن تعطي دول الشرق الأوسط الأولوية لمصالحها الذاتية، بعيدا عن رغبات القوى العظمى الخارجية، مثل الولايات المتحدة.
وفي حين أن الاتفاق قد أعاد الجدل حول الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة في الشرق الأوسط، فمن المهم تأكيد أن ملامح تصورات الغرب حول الأهمية الاستراتيجية للمنطقة قد عفا عليها الزمن. وأعرب مارك لينش، في مجلة فورين بوليسي، عن أسفه حيال الاتفاق، على الرغم من وجود عدد من التغييرات الديناميكية الجيوسياسية الأخرى التي حدثت خلال السنوات الماضية، وشملت دول المنطقة التي توسعت بالفعل اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا في كل من إفريقيا وآسيا وأوروبا.
وفي واقع الأمر، ظلت السياسة الخارجية الأمريكية مرتبطة بخريطة ذهنية أضيق بكثير عن الشرق الأوسط. ومنذ السنوات الأولى للحرب الباردة، نظرت واشنطن، إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي، استنادًا إلى الفهم المنطقي الأمريكي للمنطقة، وتاريخ القرن العشرين، وكان هذا هو الشرق الأوسط بالنسبة إلى أقسام الجامعات الأمريكية ومراكز الفكر، وكذلك الخارجية الأمريكية، وهو ما كان له تأثير في خلق المزيد من المفاهيم الخاطئة في الأوساط الأكاديمية والرسمية حيال المنطقة.
وبينما يُنظر إلى أن النفوذ الأمريكي في المنطقة آخذ في الانخفاض، كتب ستيفن رايت، من جامعة حمد بن خليفة، أن تنامي القوة الاقتصادية والنفوذ الدبلوماسي لبكين، لا يمكن تجاهله من قبل الدول الغربية، خاصة مع الدور الذي لعبته في استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، والذي هو دليل على أن هيمنة واشنطن، المفترضة على الدبلوماسية الإقليمية بالمنطقة قد انحسرت ببطء نوعًا ما.
وعبر وصفه للتقييمات الاستراتيجية السائدة للولايات المتحدة، حيال منطقة الشرق الأوسط -لا سيما الخليج العربي- بأنه قد عفا عليه الزمن؛ أضاف لينش أن المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط، يستند في المقام الأول على الاهتمام بالعالم العربي، رغم أنه يعتبر تكتلًا منفصلاً خاصًا به. واعتبر هذا المفهوم في كثير من الأحيان قيدًا، لخيارات السياسة الخارجية التي مارستها واشنطن، في المنطقة خلال العشرين عامًا الماضية.
وفي حين تُولي الدول الغربية في الآونة الأخيرة، الاهتمام بما سُمي بـ«محور آسيا والمنافسة الاستراتيجية مع الصين»؛ أشار لينش، إلى الكيفية التي قامت بها دول الخليج بخلق نظام علاقات يتمحور حول منطقة المحيط الهندي، بدلاً من الدول الغربية، وتوسيع نطاق تعاملاتها التجارية وشراكاتها، مشيرا إلى أنه في العقدين الماضيين تمت إعادة تشكيل الأسواق المالية وفقا لتوجهات بعض أغنى دول الشرق الأوسط. وأشار جوزيف ويبستر، وجوز بيلايو، من المجلس الأطلسي، إلى أنه بالتزامن مع تراجع العلاقات الاقتصادية الأمريكية مع الخليج، فقد توسعت هذه العلاقات مع الصين بشكل ملحوظ، حيث أصبحت السعودية أكبر مزود لواردات النفط الخام لبكين، حيث ارتفعت من 145 مليون طن في عام 2006، إلى أكثر من 500 مليون طن بحلول عام 2022.
ووفقا لـ«لينش»، فإن الازدهار الاقتصادي في الخليج في العقود الأخيرة قد جعله الآن مركزًا عالميًا رائدًا، للاستثمار والبنية التحتية والتكنولوجيا، وأنه بدلاً من النظر إلى دول الخليج على أن أنشطتها مقصورة على منطقة الشرق الأوسط من الناحية الجغرافية، يجب اعتبارها مراكز رائدة عالميًا للرأسمالية، موضحًا أن المراكز الإقليمية مثل دبي، لديها الآن قواسم مشتركة مع سنغافورة، أو هونغ كونغ أكثر من بيروت أو بغداد في هذا الصدد.
وفيما يتعلق بدور الولايات المتحدة، في السياسة الإقليمية والدبلوماسية؛ فقد أشار إلى تدهور المكانة الدولية لها بشكل سريع. وأوضح تريتا بارسي، من معهد كوينسي، أنه قديما كانت جميع الطرق المؤدية إلى السلام في الشرق الأوسط، تمر عبر واشنطن؛ بدءًا من اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، إلى اتفاقيات أوسلو عام 1993، ولكن الآن أصبحت السياسة الخارجية لها أكثر عسكرة، مما سبق وتجاوزت واشنطن كل القواعد، وتخلت عن مساعيها لصنع سلام صادق وحقيقي على الأصعدة الدولية، وهو ما كان له تداعيات كبرى على سمعتها العالمية.
وبالنسبة إلى «بارسي»، فإنه في حين أن الولايات المتحدة، قد فقدت الاهتمام بصنع السلام؛ فإنها بدلاً من ذلك تستعرض قوتها على نحو متزايد لعدم كونها وسيطًا محايدًا، فيما أصبحت أيضًا ترفض جهود القوى الأخرى للوساطة.
ومع إصرار إيمي هوثورن، من مشروع الشرق الأوسط للديمقراطية، على أن اتفاق بكين يمثل إنجازًا مرموقًا للصين، التي قادت دورًا دبلوماسياً جديدًا؛ فإن هذا الاتفاق يتفوق على أي شيء تمكنت الولايات المتحدة من تحقيقه في المنطقة منذ أن تولى بايدن منصبه.
وتأكيدا لذلك، أوضح لينش، أنه في الوقت الحالي يختلف تفكير القيادة في بكين، إزاء الشرق الأوسط عن واشنطن، لاسيما في ضوء أن سياستها المتصورة للمنطقة، تنبع من خدمة مصالحها الاستراتيجية الخاصة. وعلى وجه التحديد، أشار بارسي، إلى نجاح الرئيس الصيني شي جين بينغ، في التوسط لإنهاء التوترات بين الرياض، وطهران، لأنه لم يكن متحيزًا لأي طرف منهما، بالإضافة إلى انضباط بكين وحرصها على تبني الموقف المحايد حيال الخلافات بين البلدين، وهو ما كان له نتائجه في نهاية المطاف بالخروج باتفاق دبلوماسي غير مسبوق مثّل انقلابًا ضد النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.
من جانبها، أوضحت كريستين فونتينروز، من المجلس الأطلسي، أنه في حين أن الصين، أصبحت الآن قادرة على وصف نفسها بأنها صانع سلام، فإنه على النقيض من ذلك، أشار رايت، إلى مقاومة الولايات المتحدة لنمو العلاقات التكنولوجية لبكين في منطقة الشرق الأوسط من خلال حث حلفائها على استبعاد اللجوء إلى الشركات الصينية وشبكات الجيل الخامس الخاصة بها؛ بسبب المخاوف الأمنية، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية لأهداف واشنطن، حيث ترى العديد من الدول أن هذا الأمر قد يعرقل التنمية ويجبر الدول على الاختيار الثنائي، سواء بين الولايات المتحدة أو الصين.
وفي ضوء ذلك، يرى رايت، أنه في النظام العالمي الناشئ متعدد الأقطاب، من الأهمية بمكان، بالنسبة إلى دول الخليج، مواصلة مساعيها في إدارة علاقاتها بمهارة، وإدراك أن التحالفات التقليدية في الماضي قد لا تخدم مصالح الدول الإقليمية، مضيفا أن القوتين العالميتين تقدمان مزايا ذات قيمة متساوية، وأن مصالحهما تبدو وكأنها تُخدم من خلال الحفاظ على علاقات قوية مع كليهما من قبل الدول كافة، وعبر الاستفادة أيضًا من رغبة واشنطن، وبكين، المتبادلة في الاستقرار الإقليمي وحماية الأمن البحري، وأن تلك الدول بدورها تستطيع تعزيز العلاقات مع كلتا القوتين لخدمة الأهداف الاستراتيجية لها.
وفيما يتعلق بكيفية القيام بذلك، اقترح رايت، أن دول الخليج يمكن أن تلعب دورًا في تعزيز التعاون بين الولايات المتحدة، والصين في المجالات ذات الاهتمام المشترك؛ وبالتالي المساعدة في تخفيف التوترات وخلق بيئة مواتية للتعاون المشترك بينهما من خلال إطلاق المبادرات التي تعزز التنمية الإقليمية والأمن والازدهار.
وحول كيفية تعاطي واشنطن، والدول الغربية مع مفاهيمها القديمة للأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط، حث صانعو السياسة الأمريكيون على تجنب الضغط على دول الخليج لاتخاذ قرارات ثنائية، سواء بالتخلي عن العلاقات مع الصين، وتعزيزها مع واشنطن، والسعي بدلاً من ذلك إلى إقامة علاقات قوية للاستفادة من مزايا التعاون المتبادل.
وبالمثل، أشار كل من ويبستر، وبيلايو، إلى أنه يتحتم على صانعي السياسة الأمريكيين الاعتراف بخطورة الصين عبر توفير بدائل أمنية وتقنية عن تلك التي تتيحها بكين، فضلاً عن تعزيز تعاونهم في مجال الطاقة والاقتصاد مع دول الخليج. وفي ضوء الإجماع المتزايد بين الأكاديميين والخبراء الغربيين بشأن حقيقة وجود نظام متعدد الأقطاب في الشرق الأوسط، أكد بارسي، أن المسؤولية المشتركة مع الصين لتوفير الأمن يمكن أن تكون ميزة إضافية، تخفف العبء عن كاهل واشنطن دون أن يكون هناك أدنى تهديدات لمصالحها، وعليه، من الضروري أن تتخلى الأخيرة عن الوهم بأن عليها السيطرة على مجمل التطورات وحدها دون غيرها.
وبالنظر إلى مخاوف عديد من المعلقين الغربيين إزاء الدور المستقبلي الذي قد تلعبه الصين في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط؛ فإن تحذيرات لينش من عواقب حالة الاختلال الدراماتيكية للرؤية الاستراتيجية في السنوات الأخيرة من قبل الولايات المتحدة والغرب حيال الشرق الأوسط، وكذلك مخاطر التمسك بالنموذج القديم لإدارة المنطقة، قد تجلت بشكل واضح خلال الوقت الراهن. وعلى هذا النحو، كانت هناك دعوات متجددة لواشنطن بالفعل إلى الحفاظ على اهتمامها بالمنطقة، والاعتراف مرة أخرى بأهميتها الاستراتيجية القائمة.
على العموم، في حين أن جوناثان بانيكوف، من المجلس الأطلسي، قد رأى أن دبلوماسية الصين في التوسط بين إيران والسعودية، تعد تحذيرا لصانعي السياسة الأمريكيين، من أن الشرق الأوسط الذي تهيمن عليه بكين من شأنه أن يقوض بشكل أساسي مصالح التجارة الأمريكية والطاقة والأمن القومي ؛ فقد أشارت صحيفة التليجراف، إلى أن عدم منح الغرب الأولوية القصوى للتعامل مع المنطقة له أخطاره، لا سيما، أن اندلاع التوترات الإسرائيلية الفلسطينية وغيرها من القضايا مؤخرًا، أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الشرق الأوسط يحتفظ بقدرته على أن يكون بارودًا جيوسياسيًا، يغير قواعد اللعبة السياسية المتفق عليها لدى الأطراف الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك