مقابر بحرية عظيمة مساحتها الإجمالية أكبر من مساحة دول كثيرة بنحو ألف مرة، تَكَونَت في أعماق المحيطات البعيدة والنائية نتيجة لممارسات الإنسان وتصرفاته الآثمة غير المسؤولة تجاه بيئته منذ عقود طويلة من الزمن، وهذه المقابر كانت مفاجأة غير سارة للبشرية جمعاء، فلم يتوقع أحد من العلماء والمهتمين تَكَوُّنْ واستمرار وجود مثل هذه المساحات الضخمة المتشبعة منذ أكثر من عقدين من الزمان بجميع أنواع المخلفات الصغيرة والكبيرة والمجهرية التي ربما لا تخطر على بال أحد.
فهذا الخليط الواسع والمعقد من المخلفات البشرية التي نجمت عن أيدي الإنسان وتصريفه للمخلفات في البر والبحر، وصلت في نهاية المطاف واستقرَ بها المقام وحطت رحالها في المحيطات، حتى بلغ مساحتها الإجمالية أكبر من مليوني كيلومتر مكعب. ومن أشهر هذه المقابر الجماعية للمخلفات هي المنطقة الواقعة بين سواحل ولاية كاليفورنيا في جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية وجزر هاواي، وتُقدر مساحتها بنحو 1.3 مليون كيلومتر مربع، ويُطلق عليها «منطقة القمامة العظيمة في المحيط الهادئ» (Great Pacific Garbage Patch)، استناداً إلى البحث المنشور في 9 نوفمبر 2022 في مجلة (Nature Reviews Earth & Environment) تحت عنوان: «حالة ومصير مخلفات المحيطات». ويُعزي العلماء بأن سبب تجمع وتراكم هذه الكميات المهولة من المخلفات في هذه المقابر البحرية العظيمة في المحيطات هو دوران الأرض، والذي يسبب دوران الماء في المحيط حول خط الاستواء، فيُكون تياراً مائياً يسير مع اتجاه عقارب الساعة وينجم عن هذا كله تحرك ودوران المخلفات مع هذه التيارات المائية في دائرة محكمة وشبه مغلقة، أي في نهاية المطاف تكون هذه المخلفات في سجن مغلق لا تستطيع الفرار أو الخروج منه.
أما عن تقدير العلماء لكمية هذه المخلفات في هذه المقابر فيختلف بحسب الأدوات والوسائل المستخدمة في تقديرها، فمنهم من قام بالزيارة الميدانية لهذه المناطق، ومنهم من استخدم الصور الجوية، أو صور الأقمار الصناعية. فكمية المواد البلاستيكية الجديدة التي تُنتجها المصانع سنوياً تقدر بنحو 460 مليون طن، منها 8 أطنان تقريباً تدخل وتنتقل إلى البيئات البحرية، وانطلاقاً من هذه المعلومات فقد قدَّرت دراسة منشورة في 8 مارس 2023 في مجلة «بلوس ون» (PLoS ONE)، تحت عنوان: «نمو الضباب البلاستيكي يقدر الآن بأكثر من 170 تريليون قطعة بلاستيكية تطفو فوق سطح المحيطات – مطلوب الحل العاجل»، بأن حجم المخلفات البلاستيكية في المحيطات حول العالم يتراوح بين 82 إلى 358 تريليون قطعة بلاستيك، وبمعدل 171 تريليون قطعة بلاستيك، ونحو 75% منها أكبر من 5 سنتيمترات، كما قدَّرت الدراسة وزن المخلفات بنحو 1.1 إلى 4.9 ملايين طن، وبمعدل 2.3 مليون طن، وهذه المخلفات معظمها ناجمة عن صيد الأسماك، كالشباك ومعدات وأدوات الصيد المختلفة، كما أن كمية كبيرة منها انتقلت من سواحل اليابان بعد أن نزل عليها التسونامي في مارس 2011 وهدم الكثير من المرافق التي كانت موجودة في السواحل. أما مصير هذه المخلفات التي تنحبس في هذه الدوامة الهائلة فيأخذ ثلاثة مسارات. فالمسار الأول هو انتقال هذه المخلفات الثقيلة نسبياً إلى عمود الماء، ثم رويداً رويداً ومع الوقت تصل إلى القاع، وتجثم هناك إلى أن يشاء الله وتصبح جزءاً خفياً من مكونات التربة القاعية ولا يراها أحد، ولا يتحسس وجودها أحد، ومع مرور الأيام والسنين تتجذر في البيئة القاعية فتصبح ضمن النظام البيئي والسلسلة الغذائية في تلك المنطقة، وقد تنتقل وتصل إلى الإنسان عبر الزمن. وأما المسار الثاني فيكون مصير المخلفات شبه الثقيلة التي تسبح في عمود الماء، متذبذبة، ومتنقلة بين السطح والأعماق، ثم المسار الثالث والأخير وهي المخلفات الخفيفة ذو الكثافة المنخفضة التي تعوم وتطفو فوق سطح الماء، وهذا النوع من المخلفات يمثل الجزء الأكبر والأكثر مشاهدة لأعين الناس ولكل من يذهب لزيارة هذه المقبرة الجماعية للمخلفات البشرية البلاستيكية وغير البلاستيكية.
واليوم نُشرت دراسة ميدانية تكشف ولأول لنا سراً خفياً من أسرار هذه المقابر الجماعية للمخلفات، وتُقدم لنا ظاهرة وحقيقة علمية جديدة لم تكن معروفة من قبل عند الباحثين، كما أنها فتحت الباب على مصراعيه لمجال بحثي جديد لم يلج فيه أي أحد من العلماء من قبل. فهذه الدراسة صدرت في 17 أبريل 2023 في مجلة «بيئة الطبيعية وتطورها» (Nature Ecology & Evolution)، تحت عنوان: «مدى تكاثر أنواع الكائنات الساحلية على المخلفات البلاستيكية في منطقة شمال المحيط الهادئ شبه الاستوائية». والقضية الجديدة التي درستها هذه الدراسة هي نوعية وحجم الكائنات البحرية التي تعيش في هذه «المنظومة البيئية الجديدة»، وهي منظومة «مقابر المخلفات البلاستيكية»، حيث تم جمع وفحص وتحليل عينات من الكائنات البحرية الموجودة على المخلفات البلاستيكية الطافية على الماء من 105 مواقع مختلفة من هذه المقبرة. وتوصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات جديدة تُشكل بداية التوغل في هذا الباب البحثي الذي لم يكتشفه أحد، كما يلي:
أولاً: التحاليل المخبرية للكائنات أفادت عن وجود عدد 484 من أنواع اللافقاريات المختلفة التي تمثل 46 نوعاً من هذه اللافقاريات، ونحو 80% منها تُعرف علمياً وميدانياً بأنها من الأنواع التي تعيش وتستوطن طبيعياً في المناطق الساحلية، أي أنها معروفة علمياً بالكائنات الساحلية التي موطنها السواحل، ولم يدرك العلماء من قبل بأن هذه الأنواع الساحلية تستطيع أن تعيش في بيئات بحرية مختلفة، مثل بيئة أعماق المحيطات.
ثانياً: هذه الكائنات الساحلية استعمرت المخلفات البلاستيكية الموجودة في عمق المحيطات البعيدة آلاف الكيلومترات عن بيئة السواحل، ونجحت ولأول مرة في التكيف مع هذه البيئة الجديدة، وقامت بإنشاء مجتمعات مستقرة، تتكاثر فيها وتنمو عليها، بالرغم من اختلافها الشديد عن موطنها الأصلي من ناحية الملوحة، ودرجة الحرارة، وعمق المياه، وتوافر المواد الغذائية نوعياً وكمياً.
ثالثاً: سطح المخلفات البلاستيكية يعتبر بيئة خصبة يمكن أن تنمو وتتكاثر عليه شتى أنواع الكائنات، سواء أكانت مجهرية كالبكتيريا والفيروسات والفطرية، أو كانت كبيرة يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
رابعاً: هذه الدراسة غيَّرت النظرية العامة، أو الانطباع السائد بأن الكائنات البحرية الساحلية لا تقدر على بناء مجتمعات صحية ومستدامة في وسط المحيطات، فهي لا تستطيع التكيف مع هذه الظروف الجديدة.
ولذلك في تقديري فإن هذه الدراسة الفريدة والأولى من نوعها اكتشفت نظاماً بيئياً جديداً لم يكتشفه العلماء من قبل، من ناحية نوعية وأعداد الكائنات الحية بمختلف أحجامها التي من الممكن أن تعيش فيه، وتُكون مستعمرات، كما أن هذه الدراسة تفتح شهية العلماء للإجابة عن أسئلة كثيرة جديدة حول «نظام بيئة المخلفات البحرية» الغامضة، مثل العلاقات والتفاعلات التي قد تحدث بين جميع هذه الكائنات في هذه البيئة.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك