العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

تكنولوجيا الذكاء الصناعي وتأثيراتها السياسية

بقلم: د. عبدالمنعم سعيد {

الثلاثاء ٢٥ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

يبدو‭ ‬أن‭ ‬البشرية‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬التكنولوجية‭ ‬الرابعة؛‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬العصر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الرقمنة‮»‬‭ ‬و«المعلوماتية‮»‬‭ ‬وإنما‭ ‬معهما‭ ‬الآلية‭ ‬الجديدة‭ ‬للذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬ببساطة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬محاكاة‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬المعلومات‭ ‬ونسج‭ ‬المعارف‭ ‬وتحليلها‭ ‬واستنباط‭ ‬أنماطها‭. ‬الشكل‭ ‬البسيط‭ ‬منه‭ ‬هو‭ ‬تتبع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬اختياراته‭ ‬وأذواقه‭ ‬الفنية‭ ‬والأدبية‭ ‬والموسيقية‭ ‬وتصويته‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬العامة،‭ ‬بحيث‭ ‬يمكن‭ ‬أولاً‭ ‬توجيه‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬ساعة‭ ‬تسويق‭ ‬السلع‭ ‬والمواقف،‭ ‬وثانياً‭ ‬تشجيع‭ ‬الاختيارات‭ ‬ساعة‭ ‬المنافسة‭.‬

هذا‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬تطور‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬أدوات‭ ‬البحث‭ ‬والمعرفة،‭ ‬ولكنه‭ ‬ثورة‭ ‬كاملة‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬‮«‬البرونزي‮»‬‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬أولها،‭ ‬ولكنها‭ ‬أصبحت‭ ‬مسجلة‭ ‬في‭ ‬الرصيد‭ ‬الإنساني‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لعلها‭ ‬سوف‭ ‬تكون‭ ‬أسرع‭ ‬انتقال‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬منذ‭ ‬عرف‭ ‬الإنسان‭ ‬النار‭. ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تسارعاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬الثورات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬تشهدها‭ ‬البشرية،‭ ‬فقد‭ ‬استغرق‭ ‬البشر‭ ‬2000‭ ‬عام‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬الثورة‭ ‬الزراعية‭ ‬إلي‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الأولى،‭ ‬أما‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الثانية‭ ‬فقد‭ ‬استغرق‭ ‬200‭ ‬عام‭ ‬فقط،‭ ‬وخمسين‭ ‬عاماً‭ ‬للدخول‭ ‬إلي‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الثالثة،‭ ‬أو‭ ‬الثورة‭ ‬الرقمية،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الرابعة‭ ‬التي‭ ‬جوهرها‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عقدين‭.‬

كنت‭ ‬أنا‭ ‬وأبناء‭ ‬جيلي‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬الأربعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬محظوظين؛‭ ‬عندما‭ ‬عشنا‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تجلت‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تجلت‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬حينما‭ ‬باتت‭ ‬آلة‭ ‬الاحتراق‭ ‬الداخلي‭ ‬بديلاً‭ ‬كاملاً‭ ‬للآلة‭ ‬البخارية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬علامة‭ ‬الثورة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القطارات‭ ‬والسفن‭. ‬الآن‭ ‬أصبحنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬السيارات‭ ‬والطائرات،‭ ‬وبدأت‭ ‬الطفرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬الاستخدامات‭ ‬المنزلية‭ ‬واختراع‭ ‬التلفزيون،‭ ‬ومعه‭ ‬أنواع‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الطباعة‭ ‬والدواء،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بدأ‭ ‬عمر‭ ‬الإنسان‭ ‬يزيد‭.‬

لم‭ ‬نبلغ‭ ‬منتصف‭ ‬العمر‭ ‬حتى‭ ‬واجهتنا‭ ‬الثورة‭ ‬الرقمية،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬مقاومة‭ ‬نفسية‭ ‬للأكاديميين‭ ‬منا‭ ‬والصحفيين‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الصناعيين‭ ‬في‭ ‬تقبل‭ ‬الثورة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬عفية‭ ‬ومزدهرة‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬الشخصي،‭ ‬ونجومه‭ ‬وأبطاله‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬ستيفن‭ ‬جوبز‭ ‬وبيل‭ ‬جيتس‭. ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تفصيل‭ ‬وتحسينات‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الصناعية‭ ‬المختلفة‭ ‬حتى‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬التليفون‭ (‬الجوال‭). ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬جودة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تطبيقات‭ ‬جديدة‭ ‬تفتح‭ ‬مجالات‭ ‬أمام‭ ‬الاتصال‭ ‬الإنساني،‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬التطبيق‭ ‬الجديد‭ ‬Chat GPT‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬جديد،‭ ‬وخلال‭ ‬شهرين‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬خروجه‭ ‬إلى‭ ‬النور‭ ‬كان‭ ‬100‭ ‬مليون‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يستخدمونه‭ ‬في‭ ‬سابقة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬لا‭ ‬عرفتها‭ ‬‮«‬جوجل‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬فيسبوك‮»‬‭.‬

‮«‬Chat GPT‮»‬‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬روبوت‭ ‬محادثة‭ ‬تم‭ ‬إطلاقه‭ ‬في‭ ‬30‭ ‬نوفمبر‭ ‬2022‭. ‬وطرحت‭ ‬مايكروسوفت‭ ‬أيضاً‭ ‬منتجها‭ ‬الخاص‭ ‬ولكنه‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬المنافسة‭. ‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬دردشة‭ ‬تم‭ ‬تطويره‭ ‬بوساطة‭ ‬OpenAI،‭ ‬وهي‭ ‬منظومة‭ ‬أبحاث‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مغالبة‭ ‬‮«‬جوجل‮»‬‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجال،‭ ‬أهمها‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يقدم‭ ‬المعلومات‭ ‬والمعرفة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تطويرها‭ ‬وتقديمها‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬البحوث‭ ‬والمقال‭.‬

التطبيق‭ ‬تم‭ ‬بناؤه‭ ‬باستخدام‭ ‬تقنيات‭ ‬التعلم‭ ‬العميق‭ ‬المتطورة‭ ‬مستخدماً‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتدخل‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الفردية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬السياسية‭ ‬والمجتمع‭ ‬ككل،‭ ‬حينما‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬الحالة‭ ‬الفردية‭ ‬إلى‭ ‬الحالة‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬الاستخدام‭. ‬وهنا‭ ‬يكون‭ ‬التأثير‭ ‬بحيث‭ ‬يديم‭ ‬التحيز‭ ‬والتمييز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أنظمة‭ ‬القرار‭ ‬والتوصية‭ ‬والتدخل‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭.‬

ومن‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تؤثر‭ ‬هذه‭ ‬التقنيات‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬العمل،‭ ‬كما‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتوقع‭ ‬من‭ ‬الخوارزميات‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تكمل‭ ‬كفاءات‭ ‬العمال‭ ‬وتزيد‭ ‬من‭ ‬إنتاجيتهم،‭ ‬أو‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬توظيف‭ ‬البشر‭ ‬تماماً‭.‬

ويمكن‭ ‬لتطبيق‭ ‬Chat‭ ‬GPT‭ ‬أن‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬بعدة‭ ‬طرق‭: ‬أولاً،‭ ‬يمكنه‭ ‬مساعدة‭ ‬السياسيين‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬خطاباتهم‭ ‬وبياناتهم‭ ‬الصحفية‭ ‬ومقترحاتهم‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إنشاء‭ ‬نص‭ ‬متماسك‭ ‬وجيد‭ ‬الصياغة‭. ‬كما‭ ‬يمكنه‭ ‬مساعدتهم‭ ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬أفكارهم‭ ‬ومواقفهم‭ ‬بشكل‭ ‬فعال،‭ ‬ما‭ ‬يسهل‭ ‬عليهم‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الناخبين‭ ‬وكسب‭ ‬دعمهم‭.‬

‭ ‬ثانياً، Chat GPT‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬كميات‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات،‭ ‬مثل‭ ‬بيانات‭ ‬الاقتراع‭ ‬واتجاهات‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ويمكنه‭ ‬مساعدة‭ ‬السياسيين‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تهم‭ ‬الناخبين‭ ‬بشكل‭ ‬أفضل‭ ‬وصياغة‭ ‬سياسات‭ ‬أكثر‭ ‬انسجاما‭ ‬مع‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭.‬

وعموماً‭ ‬هناك‭ ‬مخاوف‭ ‬بشأن‭ ‬التطور‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬تقنيات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المخاوف‭ ‬تماثل‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الثورات‭ ‬الصناعية‭ ‬السابقة،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬إجماع‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬المخاطر‭ ‬ستتحقق‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭. ‬وفي‭ ‬العموم‭ ‬سوف‭ ‬تكون‭ ‬السياسة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬المصممة‭ ‬بعناية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬تطوير‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬مع‭ ‬إبقاء‭ ‬آثاره‭ ‬السلبية‭ ‬تحت‭ ‬السيطرة‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬منذ‭ ‬اكتشاف‭ ‬النار‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬ومفكر‭ ‬سياسي‭ ‬مصري

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا