يستهدف الاقتصاد الدائري تقليل الهدر وخفض استهلاك الطاقة والمواد الخام، وهو ينصرف إلى إحداث طفرة في التدوير وإعادة الاستخدام المستمر، كما هو الحال في معالجة مياه الصرف الصحي والزراعي وإعادة استخدامها في الري ثم إعادة معالجتها وهكذا.
ولا يُعد الاقتصاد الدائري وليد السنوات الأخيرة، إذ كانت بداياته عقب الحرب العالمية الثانية، عندما جرت محاولات استغلال التكنولوجيا في إعادة التصنيع، لكن الاهتمام زاد به مؤخرًا مع تزايد الاهتمام بالاستدامة، خاصة أن هذا الاقتصاد لا يوجد به فاقد ولا توجد له نفايات، وإلى هذا يعيد الاقتصاد الدائري السياسات الحكومية والمالية إلى مسارها الداعم للبيئة وتلبية أهداف حماية المناخ.
وفي ظل محاولات خفض انبعاثات الكربون ومكافحة التغيرات المناخية، أطلقت عدة دول مبادرات لإعادة استخدام الموارد، وزيادة الاستفادة من المواد والنفايات المهدرة من صناعات مختلفة، فيما يتسع النطاق أمام الاقتصاد الدائري، ولا يقتصر على مجالات محددة، وإنما يمتد من المواد الخام إلى المنتجات إلى الطاقة إلى المعدات والآلات، والبنى التحتية إلى المياه والغذاء والزراعة والصناعة.
ويرجع تطوير مفهوم الاقتصاد الدائري إلى الاقتصادييْن البريطانييْن «ديفيد بيرث» و«كيني تيرنر» عام 1989، في دراستهما عن «اقتصاديات الموارد الطبيعية والبيئة»، وإن كان هذا الاصطلاح قد ظهر في تقرير «وولتر ستاهل وجينيفيف ريداي» تحت عنوان؛ «رؤية الاقتصاد في الحلقات وتأثيره في خلق فرص العمل والقدرة التنافسية الاقتصادية وتوفير الموارد»، والمقدم إلى المفوضية الأوروبية عام 1976.
ويتفاعل الاقتصاد الدائري مع حقيقة أن موارد العالم محدودة، وأن النموذج الاقتصادي التقليدي القائم يخلق تحديات؛ كتغير المناخ والتلوث والنفايات وفقدان التنوع البيولوجي، ومن ثَم فإن أهمية وجدوى الاقتصاد الدائري تنبع من كونه قادرا على تصميم طرق للتخلص من النفايات والتلوث، والحفاظ على المنتجات والمواد بشكل قابل لإعادة الاستخدام أطول فترة ممكنة، ولهذا يصبح النمو الاقتصادي بعيدا كل البعد عن التأثير في البيئة، ويشجع على تسريع استخدام الطاقة المتجددة.
وفي الوقت الحالي، فإنه يتم استخدام أكثر من 100 مليار طن من المواد الأولية في الصناعة سنويًا على مستوى العالم، ويتم إعادة تدوير أقل من 10% من هذه المواد، فيما تعمل نماذج الاقتصاد الدائري على تقليل الهدر وزيادة استخدام هذه الموارد، ففي عام 2020، وكجزء من استراتيجية الاتحاد الأوروبي الخضراء البالغ قيمتها نحو (تريليون يورو)، تبنت المفوضية الأوروبية خطة عمل الاقتصاد الدائري الجديدة، وحددت قواعد وإرشادات يتم العمل بها هدفها الحفاظ على الموارد الطبيعية، والتمكين من النمو المستدام.
ووفق تقرير القمة العالمية للحكومات 2019، فإن دول مجلس «التعاون الخليجي» قادرة على تحقيق وفر بمقدار (138 مليار دولار) بحلول 2030، وذلك إذا ما اعتمدت نماذج الاقتصاد الدائري، أي ما يوازي 1% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي التراكمي لمجموع دول المجلس خلال الفترة من 2020– 2030.
وأوضح التقرير أنه وفقًا لنموذج الاقتصاد التقليدي القائم، فإنه يتم في هذه المنظومة الخليجية استنفاد الموارد بمعدلات متسارعة، مع توليد كميات غير مسبوقة من المخلفات والانبعاثات، ما يسبب أضرارًا اجتماعية واقتصادية وبيئية، ولا أدل على ذلك من أن معدلات استهلاك الطاقة في المنازل بالمنطقة تُعد الأعلى عالميًا، كما يوازي معدل استهلاك البنزين للفرد مثيله في أمريكا الشمالية.
وخلال «قمة العشرين» التي استضافتها السعودية عام 2020، دعت المملكة إلى الإقرار الدولي بتدوير الكربون كركيزة أساسية تعيد التوازن لدورة الكربون في العالم. ويقوم اقتصاد تدوير الكربون على تبني نموذج يركز على الحد من انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون، وإعادة استخدامه وتدويره وإزالته من البيئة، وذلك انطلاقًا من قناعة سعودية بأن إزالة الكربون في قطاع البتروكيماويات الخليجي هو أمر بالغ الأهمية مقارنة بالقطاعات الأخرى، باعتبار أن صناعة البتروكيماويات محور أساسي لإزالة الكربون في شركات النفط.
وكانت «سابك» أكبر شركة بتروكيماويات في الخليج، قد كشفت عن خارطة الحياد الكربوني الخاصة بها في 2021، ووضعت عام 2050 أجلًا لذلك من خلال عدة مسارات أبرزها: كفاءة الطاقة، والطاقة المتجددة، والتحول للتشغيل بالكهرباء، وجمع الكربون، والهيدروجين الأخضر والأزرق. وأطلقت شركة «أرامكو» عددًا من المبادرات الرامية إلى وضع إطار للاقتصاد القائم على تدوير الكربون، وتحرص على تطوير عدد من التقنيات التي تحتجز ثاني أوكسيد الكربون وتخزينه في التكوينات الجيولوجية، ونجحت في تحويل الانبعاثات إلى قيمة مضافة عبر تجميع ثاني أوكسيد الكربون ومزجه مع اللقيم الهيدروكربوني، لتطوير منتجات نظيفة عالية القيمة تستخدم في القطاعين الاستهلاكي والصناعي.
وفي مؤتمر «الأمم المتحدة للمناخ» في شرم الشيخ في نوفمبر 2022، أطلقت السعودية؛ «مركز معارف الاقتصاد الدائري للكربون» بدايةً من 2023، لدعم جهود التعاون الإقليمي في هذا المجال، وتأسيس مركز إقليمي لتسريع وتيرة خفض الانبعاثات بالتعاون مع «الأسكوا»، كما أعلنت استضافتها «أسبوع المناخ» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2023، قبل عقد النسخة 28 لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ.
في مملكة البحرين، أكد وزير النفط والبيئة البحريني «محمد بن مبارك بن دينة» أن المملكة تبنت عديدا من المبادرات لتحقيق الأهداف قصيرة المدى الخاصة بتخفيض الانبعاثات بحلول عام 2035، والحياد الكربوني في 2060 من خلال تبني الاقتصاد الدائري للكربون، واحتجاز الكربون المنبعث وتخزينه وإعادة استخدامه. وكانت المملكة قد أقامت منذ عام 2009 مصنعًا لتدوير ثاني أوكسيد الكربون وتحويله إلى منتجات اقتصادية بقيمة بلغت (52 مليون دينار)، حيث يقوم هذا المصنع باسترجاع 450 طنا يوميًا من ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من مداخن شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات، ومن ثم يُستخدم في تعزيز إنتاج الميثانول بكمية قدرها 80 طنا يوميًّا.
أما الإمارات، فقد أطلقت سياسة الاقتصاد الدائري 2021–2031، التي تُعد إطارًا شاملًا يحدد اتجاهات الدولة في تحقيق الإدارة المستدامة والاستخدام الفعال للموارد، من خلال تبني أساليب وتقنيات الاستهلاك والإنتاج. وتتضمن هذه السياسة مجموعة أهداف رئيسية، منها: تعزيز الصحة البيئية، دعم القطاع الخاص في التحول إلى أساليب وتقنيات أنظف، الحد من الإجهاد البيئي وتلبية الاحتياجات الأساسية. وتسهم هذه السياسة في تحقيق عوائد اقتصادية كبيرة للدولة في تحفيز الابتكار، وتعزيز النمو الاقتصادي، وزيادة الاستفادة من المواد الخام، وزيادة القدرة التنافسية وتحسين الشروط البيئية.
ومؤسسيًّا أقامت الدولة «مجلس الإمارات للاقتصاد الدائري» الذي يتولى إعداد آلية تطبيق سياسة الاقتصاد الدائري، واعتماد مؤشرات الأداء، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص، وتعزيز وتطوير الدراسات والبحوث وتعزيز التعاون الدولي. وفي مارس الماضي، اعتمد مجلس الوزراء 22 سياسة مقترحة من قبل «لجنة سياسات الاقتصاد الدائري» ضمن 4 قطاعات رئيسية، شملت: التصنيع، الغذاء، البنية التحتية والنقل، فيما تسعى الإمارات إلى تحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050.
وضمن خطة المسرعات لتطبيق نموذج الاقتصاد الدائري، تم عقد اتفاقيات مع الشركات الناشئة الطامحة في مجال هذا الاقتصاد في الإمارات، مثل شركة «إسمنت الاتحاد» لاستخدام الوقود البديل المنتج من محطة معالجة نفايات البلدية الصلبة في «أم القوين»، ومصنع «لوتاه» للوقود الحيوي لتحويل زيوت الطبخ إلى وقود حيوي، وشركة «سولين» المتخصصة في عمليات إنتاج البروتين، باستخدام موارد مياه أقل ألف مرة مما هو مطلوب لإنتاج البروتين من لحوم الماشية وأقل 100 مرة من إنتاج البروتين النباتي، وشركة «إفو» المتخصصة في الحد من استخدام البلاستيك، عن طريق استبداله بمواد مستمدة من الطبيعة كالأعشاب البحرية وقش الأرز ومخلفات قصب السكر.
وفي قطر، يشجع البرنامج المتكامل لفرز وإعادة تدوير النفايات، واستراتيجية التنمية الوطنية الثانية، تسهيل استخدام نحو 20% من المواد المعاد تدويرها في مشاريع الإنشاءات، واستخدام النفايات كوقود، وهو أول مشروع في هذا القطاع بدول مجلس التعاون، وتولد البلاد بالفعل نحو 30 ميجاوات كهرباء في مركز معالجة النفايات الصلبة.
وسلطت دراسة وكالة «ترويج الاستثمار» الضوء على الفرص الواعدة للاستثمار الأخضر في إدارة النفايات، وتوقعت أن يوفر نموذج الاقتصاد الدائري في قطر منافع مالية واجتماعية وبيئية بقيمة تناهز (17 مليار دولار) بحلول 2030، إضافة إلى 19 ألف فرصة عمل.
وتتسم قطر مثلها مثل باقي دول «مجلس التعاون» بتركز غالبية السكان في المدن، بنسبة تصل إلى نحو 90% في 2050، ولهذا استثمرت في سياق تخطيطها للاستدامة في بناء مدن ومناطق تتبنى فكرة الاقتصاد الدائري، على غرار «لوسيل» و«ميشيرب قلب الدوحة». وقدرت «اللجنة العليا للمشاريع والإرث القطرية» أن المخلفات المرفوعة من ملاعب بطولة كأس العالم 2022، تبلغ نحو 2000 طن، أُعيد تدوير 80% منها، فيما تم استخدام 90% من مخلفات أحد الملاعب في العمليات الإنشائية الجديدة للملعب ذاته.
في سلطنة عُمان، فإن قطاع الاقتصاد الدائري وإدارة النفايات في وزارة التجارة والصناعة بالتعاون مع «الشركة العمانية القابضة لخدمات البيئة»، يقوم بالترويج لــ 12 فرصة استثمارية متاحة في قطاع الاقتصاد الدائري وإدارة النفايات بإجمالي استثمار قدره (528 مليون ريـال عُماني)، وتشمل هذه الفرص: إعادة تدوير النفايات الإلكترونية، إنشاء معمل الغاز الحيوي لإنتاج الكهرباء، محطة تحويل النفايات إلى طاقة، إعادة تدوير الزجاج، مخلفات النحاس والألومنيوم، إعادة تدوير زيت المحركات، وإعادة تدوير منتجات الأسماك، إعادة تدوير زيت الطهي المستعمل، إعادة تدوير النفايات الخضراء، مخلفات الورق والكرتون.
فيما تعهدت الكويت أيضًا بتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060، ولقطاع النفط والغاز بحلول 2050، وأكد مدير عام الهيئة العامة للبيئة ورئيس مجلس إدارتها الشيخ «عبد الله الأحمد» أن الكويت ستكون قريبًا من الدول الرائدة في المنطقة والخليج في إعادة التدوير بمشروع تحت الدراسة لتحويل النفايات إلى طاقة على مساحة نحو 500 ألف متر مربع.
وفيما تتعدد خطط وبرامج ومشروعات الاقتصاد الدائري في دول مجلس «التعاون الخليجي»، فإنها مازالت دون طموحات هذا الاقتصاد، وما يمكن أن يعود على شعوبها منه، ويوفر البعد التكاملي بين هذه المشروعات آفاقًا أوسع، خاصة مع تبني كل دول المجلس مفاهيم مشتركة في الصحة البيئية والبنية التحتية الخضراء ووضعها في أولوياتها، ويمكن في ذلك أن تُستلهم تجربة الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن.
ومع الطفرة العمرانية التي تشهدها دول «التعاون»، يُعد قطاع البناء والتشييد من المجالات البارزة في هذا التكامل نظرًا إلى الكميات الهائلة من الموارد التي يستخدمها، والكميات الكبيرة من النفايات الناتجة التي يمكن تدويرها، ويمكن أن تنشأ في هذا الصدد تجارة بينية في المخلفات تعزز فرص التكامل، كما يمكن التعويض المتبادل بين دول المجلس سواء على صعيد الموارد أو الاستخدامات، ما يعزز أيضًا الاستثمارات البينية في المنظومة الخليجية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك