أثار الصراع المسلح الذي يشهده السودان الشقيق عديدا من التساؤلات من بينها جذور ومآلات الصراع وتأثيره سواء على السودان أو الأمن الإقليمي، فضلاً عن المصالح الدولية بالنظر إلى الموقع الاستراتيجي للسودان، وتعددت الرؤى والتي لا تزال جميعها من قبيل الاجتهادات وخاصة بالنسبة إلى مستقبل ذلك الصراع، إلا أنه ما استوقفني في ذلك الصراع أمر مهم وهو صراع من نوع آخر ما بين جهود إقليمية لتسوية الأزمة وأخرى دولية، وبغض النظر عمن ستكون له الغلبة في النهاية فإن الحلول الإقليمية- حال نجاحها- تبقى ضرورة استراتيجية وهذا هو جل المقال.
بالعودة إلى التاريخ قليلا نجد أن تنظيمات الأمن الإقليمي والتي تعبر عنها في المنطقة العربية جامعة الدول العربية قد لعبت دور الوساطة في عديد من النزاعات، وبغض النظر عن النجاح أحياناً والتعثر أحايين أخرى كما كان هو الحال خلال الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990 عندما حدث انقسام عربي غير مسبوق في الموقف من ذلك الغزو فإن الأمر الثابت هو أن اضطلاع تلك التنظيمات بدور الوساطة كآلية لحل النزاعات هو من صميم اختصاصاتها ودورها تجاه تحقيق الأمن والسلم الدوليين تكاملاً مع دور المنظمة الأممية وفقاً لما تضمنه الفصل الثامن من الميثاق بشأن عمل تنظيمات الأمن الإقليمي، وحتى في حال عدم قدرة المنظمات الإقليمية على حل الصراعات الإقليمية فإن قراراتها تمثل دعماً مهماً للأمن العالمي كما كان عليه الحال خلال الأزمة الليبية عام 2011 من خلال قرار للجامعة في مارس من ذلك العام طالب فيه مجلس الأمن تحمل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض حظر جوي على حركة الطيران العسكري وإقامة مناطق آمنة في المناطق التي تتعرض للقصف، بالإضافة إلى الدور الذي يلعبه الاتحاد الإفريقي من خلال أجهزته ذات الصلة بتسوية النزاعات داخل القارة الإفريقية وأهمها مجلس السلم والأمن الإفريقي وقوات التدخل السريع لفض النزاعات الدموية. وعلى الرغم من تواضع الأدوار الإقليمية تجاه تسوية بعض الصراعات فإنها برأيي تبقى هي الأساس الذي يتعين الانطلاق منه لتسوية تلك الصراعات، صحيح أن الصراعات بين الدول ربما تحتاج إلى تدخل دولي بما يتضمنه ذلك من إلزام لأطراف النزاع مع عدم قدرة المنظمة الأممية على فرض إلزامية تنفيذ قراراتها وخاصة إذا كانت هناك فجوة في توازن القوى بين الأطراف المتصارعة، ولكن خبرة الصراعات أكدت وخاصة داخل الدول أن الحلول الإقليمية هي الناجعة وذلك لأسباب ثلاثة أولها: باستقراء العديد من الأزمات التي شهدتها المنطقة العربية منذ عام 2011 وحتى الآن نجد أنه إذا كان الخلاف بين الأطراف المحلية هو المنشئ لهذه الأزمات فإن تباين المصالح الدولية وتضاربها هي أسباب محركة لتلك الأزمات وتقدم الأزمتان السورية والليبية مثالين لذلك حيث إن هاتين الأزمتين ترتبطان على نحو وثيق بثلاث دوائر بالغة التعقيد داخلية وإقليمية ودولية ما يحول دون إيجاد حلول وشيكة لهما، وثانيها: أن كل تجارب الأمن الإقليمي أكدت وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك أن ذلك الأمن يعد وليداً لبيئته الإقليمية وأن أي صيغ أخرى مفروضة من الخارج لن يحالفها النجاح، وثالثها: الخبرات التاريخية لتنظيمات الأمن الإقليمي والتي نجحت أحياناً في تسوية بعض النزاعات تجعل لها مصداقية وقبولا لدى أطراف الصراع.
ومع التسليم بأهمية الحلول الإقليمية للأزمات فإن تدويل الأزمات يرتب نتائج بالغة الخطورة أولها: تجريد الأزمات من خصوصيتها الإقليمية، بمعنى آخر فإن توصيف الأزمة كمتطلب رئيسي لحلها لن ينطلق من بحث مسبباتها الحقيقية وثمة أمثلة على ذلك من بينها على سبيل المثال لا الحصر خلال مناقشة مجلس الأمن لقضية سد النهضة كانت بيانات الدول الكبرى تتسم بالعمومية وحتمية التعاون بشأن استغلال الموارد الطبيعية على الرغم من وجود اتفاقيات دولية محددة بشأن تقاسم مياه النيل وملزمة لأطرافها ولا يجوز التنصل منها، فضلاً عن مناقشة مجلس الأمن للاعتداءات على ناقلات النفط في الخليج العربي عام 2021 إذ تحولت المناقشات إلى عرض لخلافات أوسع نطاقاً من منطقة الخليج العربي بشأن تهديدات الأمن البحري، وثانيها: إطالة أمد الصراعات، وذلك نتيجة نشوء اتجاه إقصائي من طرف تجاه طرف آخر ظناً بقدرته على تحقيق معادلة صفرية أي مكاسب كاملة تمثل خسائر كاملة للطرف الآخر وهو السيناريو الذي لا يتحقق على الإطلاق في أي صراع، وثالثها: تسييس القرارات الأممية، صحيح إنها تبقى المرجعية الدولية ولكن بعضها يحمل في طياته دوراً لقوى بعينها في بعض الصراعات ومن ذلك على سبيل المثال القرارات الأممية لمواجهة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي عام 2008 والتي نصت على دور المنظمات الإقليمية والدولية ما أتاح الفرصة لحلف الناتو على سبيل المثال أن يضطلع بدور في مواجهة مخاطر تلك القرصنة إلا أن البعض رآه فرصة للحلف لتعزيز وجوده في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم.
ومع أهمية ما سبق: هل تتضمن تنظيمات الأمن الإقليمي الراهنة آليات فعالة لإنهاء الصراعات سواء داخل الدول أو فيما بينها؟ في تصوري أن المسألة تكمن في الإجابة على تساؤلين الأول: هل تطورت تلك المواثيق بما يكفي لاستحداث آليات عملية ذات قدرة على حسم تلك الصراعات أم لا؟ والثاني: مدى التزام الدول بتلك المواثيق، بمعنى آخر هل يوجد ما يجبر الدول على تنفيذ قرارات تلك التنظيمات؟ وخاصة في ظل ظهور حديث نمطي يعد باكورة التصريحات الإعلامية عند اندلاع صراع مسلح داخلي «بأن الأمر شأن داخلي»، صحيح أن ميثاق المنظمة الأممية قد كفل للدول كل احترام سيادتها واستقلالها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ولكن ذلك الأمر يتقاطع مع سلطة مجلس الأمن في حفظ الأمن والسلم الدوليين وخاصة من خلال الفصل السابع من الميثاق، بمعنى آخر تظل الصراعات داخلية ما لم يكن لها تأثير في المصالح الإقليمية والعالمية وخاصة إذا كانت الدولة تحظى بموقع استراتيجي وحدود مطولة مع دول أخرى يمكن أن تشهد موجات من اللاجئين والفارين من أتون الحرب حال إطالة أمدها، فضلاً عن إمكانية تسلل عناصر إرهابية بين هؤلاء اللاجئين.
في تقديري أن الأزمة الراهنة في السودان والتي تضاف إلى قائمة الأزمات العربية بتعقيداتها تفرض تحدياً هائلاً على تنظيمات الأمن الإقليمي لإعادة النظر في عمل آليات حل الصراعات وتسويتها وتطوير آليات عملية بإمكانها حسم تلك الصراعات والتي تمثل خطورة بالغة على منظومة الأمن الإقليمي حيث يبقى ذلك الأمن حاصل جمع وحداته، وبقدر قوتها يكون تماسك وقوة الأمن الإقليمي بعيداً عن مخاطر التدويل الكارثية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك