يمكن أن يُعد القرآن الكريم – في أحد جزئياته – سجلا هائلا وموثوقا لكثير من الأحداث التي وقعت على مدار التاريخ. فمنذ لحظة خلق سيدنا آدم حتى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن تجدها في القرآن الكريم، مرورًا بالكثير من الأقوام والأنبياء والأحداث التي لم تتمكن أي السجلات أن تذكرها كما ذكرها الخالق عز وجل في القرآن الكريم.
علمًا –كما نعتقد– أن كل هذا السجل، وهذا الكم من الحكايات والقصص لم ترد في القرآن الكريم، لمجرد الاستمتاع بها فقط، وإنما هي عبر وعظات يمكن أن يستفيد منها الإنسان على مر التاريخ، سواءً اليوم أو حتى في المستقبل.
فلو استلينا جزئية صغيرة من تلك الحكايات وحاولنا أن نستشف منها بعض العبر، وخاصة فيما يتعلق بالحقيقة والواقع وطول النظر وقصر النظر، فنرى كيف ستكون؟
والحقيقة؛ وهي طول النظر، وهي ببساطة الأمور التي تتعارض مع الكذب والخيال والأوهام، وما لم يختلط بها أي من عناصر التدليس والتزييف لتغييرها فتحولها إلى محض كذب.
أما الواقع؛ فهو قصر النظر، وهو اللحظة التي يعيش فيها المرء، سواء كان يعيش كذبا أو وهما فصدقها بنفسه وعقله، فاعتقدت أنها حقيقة.
دعونا بهذا المفهومين نتجول بين بعض الأحداث والحكايات،
فرعون؛ عاش فرعون في وهم وواقع كبيرين، وأعتبر أنه إله، وأوهم الناس الذين يعيشون معه أنه فعلاً إله. وعندما بُعث سيدنا موسى عليه السلام رفض أن يكون للحياة إله غيره وأعظم منه، لذلك حاول أن يفرض واقعه هو بشتى الطرق، ولم يرعو، وبسبب قصر نظره للأمور فجاء تارة بالسحرة وتارة طلب من هامان أن يبني له بناء حتى يطلع على ذلك الإله الذي يعيش في السماء.
عاش فرعون في واقع الثراء والسلطة حتى آمن بكل جوارحه أنه هو الإله، فرفض الحقيقة التي تقول له ليس إله وأنه يوجد إله أعظم منه وهو الذي يمتلك كل شيء، وأنه هو؛ فرعون مجرد رجل عادي لا يختلف عن بقية البشر في شيء، وكان هذا قصر نظر منه.
تغلغل الواقع في عقل فرعون جعله يصارع، ويقتل كل من آمن بالحقيقة الكبرى التي جاء بها سيدنا موسى عليه السلام، أغلق عقله وقلبه ووجدانه حتى لا تتسرب الحقيقة فتزيل ورقة الواقع الرقيقة التي كان يعيش فيها.
كانت نظرة فرعون للأمور سطحية وقصيرة المدى لأنه لم يستطع أن ينظر في الأفق ولم يزل بنفسه ورقة الواقع والوهم والكذب الرقيقة لينظر إلى الحقيقة الكبرى، فتصادم معها، ولكنه في اللحظة الأخيرة من حياته وهو يعاني من أجل رشفة هواء أعلن الحقيقة بكل بساطة، ويصف القرآن تلك اللحظة بقوله عز وجل في سورة يونس – الآية 90 (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وجنوده بَغْيًا وَعَدْوًا حتى إذا أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ ءَامَنتُ أنه لا إِلَهَ إِلَّا الذي ءَامَنَتْ به بنو إسرائيل وأنا مِنَ المسلمين)، وكانت لحظة انكشاف الحقيقة ولكنها جاءت متأخرة.
قارون، كان من أغنى أغنياء البشر في زمانه، حتى إنه من فرط ثرائه كانت مفاتيح خزائنه أثقل من أن يحملها الرجال الأشداء بسبب ثقلها وضخامتها. عاش هذا الواقع بكل جوانحه وكيانه وعقله ووجدانه، حتى أنه رفض أن يسمع كلام الحقيقة، لم يرفض فحسب وإنما تعالى على كل الحقيقة التي تقول إن الرازق والمالك هو الله سبحانه.
وعلى الرغم من سطوع الحقيقة، إلا أنه قال في صورة القصص – الآية 78 (قَالَ إنَّمَا أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، وهنا اختلطت كل المفاهيم لديه، فهو واقع ممزوج بغرور وتكبر وكذلك عودة ورقة الواقع الرقيقة التي لا تستطيع أن تغطي الحقيقة إلا في النفوس والعقول التي تتوهم أنها أكبر من الحقيقة، وهنا يتجلى قصر النظر لدى قارون.
ثراء ما بعده ثراء، وحتى يخضع الناس الذين يعيشون حوله، فإنه قام بالخروج على الناس بكامل زينته وثرائه، خرج عليهم بكل مجوهراته وملابسه التي لا يمتلكها إلا هو، ففُتن به الناس، وتمنوا أن يملكوا جزءا مما أوتي قارون. وكان قارون في تلك اللحظة وكأنه يريد أن يقول للذين تبينوا الحقيقة، إنه أنا الحقيقة المطلقة، أنا أقوى رجل فيكم لأني أثرى منكم جميعًا، أما أنتم فلا تكادون أن تكونوا شيئا.
ولكن أثناء كل هذه العنجهية والجبروت، تبرز الحقيقة المطلقة، فتحرق ورقة الواقع الرقيقة والهزيلة والشفافة، وحتى الذين كانت نظرتهم قصيرة المدى والذين تمنوا مكانه بالأمس، اكتشفوا أن الحقيقة أبعد من هذا كله.
ويتكرر هذا الواقع الهزيل، عند صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف، وتستمر حتى تصل إلى الوليد بن المغيرة، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى الحقيقة، إلا أنه رفض التفكير الحر لذلك انجرف نحو الواقع الجاهلي الذي كان يعيش فيه وذلك بسبب قصر نظره، قال تعالي وهو يصف لحظة اقترابه من الحقيقة والتفكير الحر واتخاذ القرار في سورة ص – الآية 67 (ذرني ومن خلقت وحيدًا وجعلت له مالًا ممدودًا وبنين شهودًا ومهدت له تمهيدًا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدًا سأرهقه صعودًا).
مع أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة لا تحتاج إلا إلى التفكير المجرد والمنطقي والمنهجي وبُعد نظر، ربما نجد هذا النوع من التفكير في القصص التالية:
أهل الكهف، يقول تعالى: (إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)، لم يوضح لنا سبحانه وتعالى من هم فتية الكهف، هل هم أغنياء، سادة، أو أي أمر آخر، ولكننا نعرف بكل بساطة أنهم كانوا أصحاب بُعد نظر فرفضوا الواقع الذي كانوا يعيشون فيه، وعرفوا الحقيقة المطلقة، وعرفوا أن نفوسهم تتوق إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهذا واضح في الآيات التالية (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15).
كان قومهم يعيشون الواقع، وكان أهل الكهف يعرفون الحقيقة، ربما حدث تفاعل وتصادم بين الطرفين، وهذا هو حال الحياة التي يعيشها أهل الحقيقة، وربما عندما وصلت الأمور ذروتها قرروا الابتعاد عن الأهل والأرض وترك كل هذا الواقع خلفهم ووراء ظهورهم، فكل تلك الأمور لا تستحق أن يتمسك بها الإنسان إن عرف الحقيقة، وخرجوا، ولكنهم لم يبتعدوا، فكانوا آية للحقيقة الواعية والراغبين في التفكير الحر الناضج، والذين يمتلكون بُعد النظر.
سيدنا إبراهيم عليه السلام، منذ الصغر وسيدنا إبراهيم يشعر في قرارة نفسه أن الحقيقة هي ليس ذلك الواقع وتلك الأصنام التي يعبدها قومه، فلا شك أن الحقيقة أمر آخر، فذهب يبحث عنها بين النجوم والسماء والأرض، وعندما اتضحت له، وانبلج فجر الحقيقة أمام عينيه، وقف أمام قومه كلهم ليخبرهم أن الواقع الذي يعيشون فيه مزيف، وأن الحقيقة غير ذلك تمامًا وأن هذه الأصنام لا تتكلم ولا تنطق ولا تفكر، فكيف يخضع لها الإنسان المفكر الحر والمتخذ القرار.
وعندما بلغت الأمور إلى حد التصادم بين الحقيقة والواقع، تلك اللحظة يصفها القرآن الكريم في سورة الأنبياء (إذْ قَالَ لِأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56).
في تلك اللحظة، وحتى تظل عقول أصحاب النظر القصير تحت سيطرة الواقع طلبوا أن يوقدوا له نارا عظيمة بهدف إحراقه وإحراق الحقيقة التي جاء بها، ولكن الحقيقة التي كانت تعيش في جوف سيدنا إبراهيم عليه السلام كانت أكبر من تلك النار. كان سيدنا إبراهيم عليه السلام يعلم من خلال منطق الواقع أن النار سوف تحرقه إن وضع رجليه فيها، ولكنه في الوقت ذاته كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى صاحب الحقيقة المطلقة سوف ينجيه، في اللحظة التي يريدها هو سبحانه وتعالى، فتجلت الحقيقة وتبخر الواقع.
وسيدنا العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعش الحقيقة فحسب، ولكنه انصهر فيها، فكانت حياته ووجدانه وتفكيره كلها تنطق بالحقيقة. فمنذ اللحظة الأولى التي صدع بالحقيقة أمام قومه وحتى لحظة ارتقائه إلى الرفيق الأعلى، فهو يدعو إلى تلك الحقيقة، تلك الحقيقة التي تقول إنه (لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله). وعلى الرغم من كل الذي حدث له من معاناة وعناد الواقع الأليم والمرير، إلا أنه ولحظات ضعفه البشري كان يلجأ إلى الحقيقة المطلقة، في تلك اللحظة رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى وقال: (إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وفي مكان آخر، وفي حديث آخر طويل نقتبس هذه الجزئية قال: (فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ ، فَناداني فقالَ: يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا). وهكذا هم العظماء أصحاب بُعد النظر الذين يؤمنون بالحقيقة.
والآن، هل نحن نعيش الواقع أو الحقيقة؟ الأمر متروك لك.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك