الابتلاء سنة أكيدة من سنن الله تعالى، وهي قد تكون بالشر، وقد تكون بالخير وذلك لتحقيق كمال الإيمان للمؤمن، يقول سبحانه وتعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء / 35.
قد يتساءل البعض: نفتن بالشر هذا أمره معروف ومعقول أمَّا أن نفتن بالخير، فما حقيقته؟! يقول تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة / 216.
الشر والخير إذن مادتان للابتلاء والامتحان، يبتلي الحق سبحانه وتعالى عبده بالشر ليظهر درجته في الصبر، ويبتليه بالخير ليظهر مرتبته في الشكر، وكلاهما امتحان وفتنة للعبد المؤمن، فليس الابتلاء بالشر بغض من الله تعالى للعبد، وليس الابتلاء بالخير هو حب من الله تعالى للعبد، ولكنهما -كما أسلفنا- هما مادتان للابتلاء يختبر بهما الله تعالى حقيقة إيمان المؤمن، وقوة يقينه.
يقول صلوات ربي وسلامه عليه: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط» من صحيح الترمذي.
إذًا، فالبلاء كله خير، وهو لنا لا علينا في جميع الأحوال، يقول سبحانه؛ (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (التوبة / 51) وتحقيقًا لهذه الآية الجليلة نورد من القرآن العظيم، ومن السنة المطهرة ما يؤيد هذا المعنى ويجسده واقعًا حيًا في حياتنا نحن المسلمين، يقول تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر / 10) هذه الآية العظيمة تجمع كل معاني الخير للمؤمنين إذا صبروا في البلاء، وشكروا في الرخاء، ومعنى قوله تعالى: (بغير حساب) تأتي مرة بمعنى بلا عَدٍّ ولا حصر، وتجيئ مرة بلا محاسبة، نجد ذلك في الحديث الذي رُوِيَ عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبًا حتى أن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله لهم» رواه البخاري في الصحيح.
وعبارة (بغير حساب) تحمل معنيين، الأول: بلا عَدٍّ ولا حصر نجد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «يُصَبُ عليهم الأجر صبًا»، وأمَّا المعنى الآخر، فنجده في قوله عليه الصلاة والسلام: «فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان». والديوان والميزان من أدوات المحاسبة، وهذا يعني أنهم لا يحاسبون، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له إذا اجتنبت الكبائر، والله تعالى أعلم.
ومن عطاء البلاء للمسلم، قوله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من وصب - أي وجع -ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّرً بها من خطاياه» البخاري. وهذه أحوال يتقلب فيها المؤمن ولابد أن ينال شيئًا منها.
ومن عطاء البلاء أيضًا قول الحق سبحانه في الحديث القدسي: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما بالجنة. (يريد عينيه)) رواه البخاري.
ومن كرامة المؤمن المبتلى عند الله تعالى قوله سبحانه في الحديث القدسي: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟) جزء من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
إن الحق سبحانه وتعالى أول الزائرين لأهل البلاء، زيارة تليق بعظمته وكماله سبحانه، فهو جل جلاله (ليس كمثله شيء)، فمن أحب أن ينال بركة دعاء المريض، فليحرص على عيادته لأن مجيب الدعوات سبحانه عنده، فإذا دعا المريض لعواده استجاب الله تعالى لهم، فتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله تعالى فيمن عنده، وتغشاهم الرحمة.
ومن عطاء البلاء كذلك أن يقابل المؤمن الصابر كل بلاء بالحمد والثناء على الله تعالى بما هو أهل له من الثناء الحسن عملًا بالقاعدة الإيمانية: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة / 216). فأنت أيها المؤمن المبتلى تحمده في الضراء كما تحمده في السراء، وفي كلا الأمرين فيهما خير كثير، ولا يتم إيمانك، ولا يكمل يقينك إلا بالشكر في الرخاء، والصبر في البلاء، وكلاهما فتنة لك في حياتك.
ومن عطاء الواحد المنان سبحانه، ومن رحمة الرحمن جل جلاله أن في البلاء بشارة لك بأن الحق سبحانه وتعالى يريد الخير لك، يقول صلوات ربي وسلامه عليه: «من يرد الله به خيرًا يصب منه» رواه البخاري.
ومن عطاء البلاء أن الله تعالى كتب لعبده المؤمن درجة في الجنة لا ينالها إلا أصحاب الهموم، يقول صلى الله عليه وسلم: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» رواه الترمذي في صحيحه.
ومن العطاء أيضًا حب الله تعالى لعبده المبتلى، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل أهل السماء: إن الله يحب فلانًا، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض» رواه الإمام البخاري.
هذا هو البلاء.. وهذا كل عطاؤه وبركته، وجليل فضله على أهل البلاء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك