اشتباكات السودان نتاج خيارات خاطئة وقع فيها الجميع، منذ نجاح الثورة السودانية في أبريل 2019 في عزل البشير، حيث ارتكب المكون العسكري والمدني أخطاء فادحة في إدارة المرحلة الانتقالية يدفع الآن الشعب السوداني ثمنها من دماء أبنائه.
وقد تكون البداية حين أصرت القوى المدنية على إطالة المرحلة الانتقالية، عقب تشكيل المجلس السيادي الذي عانى من توزيع رأسي للسلطة على 10 أشخاص هم أعضاء المجلس، بما يعني أنه يحتاج مواءمات كثيرة حتى يستطيع أن يخرج قرارا أو إصلاحا سياسيًّا كبيرا، في بلد يعاني أزمات اقتصادية عميقة وأيضاً حروباً وانقسامات سياسية وعرقية وجهوية، وهو ما أدى إلى خلق بيئة تُعمِّق الخلافات، ولا تحلّها، إنما تُسكِّنها لأنه لا توجد حكومة منتخبة ولا نظام شرعي اتفق السودانيون على دعمه، إنما نظام ومشروع انتقالي.
وقد ساعدت هذه السيولة قائد المجلس العسكري، الفريق عبدالفتاح البرهان، على الإقدام على عزل رئيس الحكومة، عبد الله حمدوك، والانقلاب على المسار السياسي، وهو ما أدى إلى عمق الخلاف بين تيار واسع من القوى المدنية والمكون العسكري.
كما ارتكبت القوى المدنية الثورية خطأ آخر، تمثل في تركيزها منذ تشكيل حكومة حمدوك وحتى بعد استقالته، على هدف أساسي تمثل في عزل قيادات النظام القديم والخلط بين مَنْ ارتكب جرائم دم أو فساد وإفساد، وقيادات وسطى وصغرى دخلت الحزب الحاكم لتحقيق مصالح صغيرة معروفة في كل أحزاب السلطة في العالم العربي، ما خلق مع الوقت حاضنة من بقايا النظام القديم التفّ بعضها حول المكون العسكري، وناصبت «الحرية والتغيير» العداء، كما عانت قوى الحرية والتغيير نفسها انقسامات بين المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية، وخرج تيار جديد سمّى نفسه «قوى التغيير الجذري»، ورفع شعارات من نوع عدم التفاوض مع المجلس العسكري، وهو أمر شديد الغرابة، وغير متعارف عليه في كل تجارب الانتقال الديمقراطي، ومضاد أصلاً لقيمة التفاوض، التي مثلت أحد أسباب نجاح الثورة السودانية.
وقد تجاهلت قوى التغيير وجود تيارات شعبية محافظة وتقليدية، وبعضها رحب بتدخل الجيش، مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات في شرق السودان وغيرها.
وركزت قوى الحرية والتغيير والقوى الثورية على ورقة الشارع، التي رغم أهميتها ولولاها لما سقط حكم البشير، إلا أن تحقيق أهداف الثورة لا يتم فقط من خلال الصوت الاحتجاجي، ويتجاهل المهمة الأصعب، وهي بناء مشروع حزبي وسياسي قادر على تقديم حلول جديدة وغير تقليدية لبلد يعاني انقساماً مناطقيّا وقبليّاً وأزمة اقتصادية وسياسية عميقة.
أخطأ كثير من القوى السياسية في التعامل مع المرحلة الانتقالية، وأخطأ قادة المكون العسكري بعزل عبد الله حمدوك وتأليب قطاع من الشعب السوداني على إداراتهم، وأصبحت البلاد طوال الفترة الماضية تعيش حالة من عدم الثقة بين الجميع، فهناك الانقسام الذي ظل كامناً بين الجيش والدعم السريع، وهناك الانقسام بين الفصائل المدنية، أي بين القوى الثورية والقوى التقليدية والمحافظة، وأيضاً بين القوى الثورية والقوى «الأكثر ثورية» (تيار التغيير الجذري).
والحقيقة أن هذه الأجواء استمرت طوال مرحلة انتقالية على مدار أربع سنوات، وطالب بمدها قوى التغيير المدنية تحت مبرر تفكيك النظام القديم أو البائد، فاكتشفنا أنها ففككت القوى السياسية وعمقت الخلاف بين العسكريين (الجيش والدعم السريع)، وفي نفس الوقت قوّت المحسوبين على النظام القديم، حتى إن بعض الأطراف السياسية حمّلته مسؤولية الاشتباكات الحالية.
والمؤكد أن هذا المسار الانتقالي الذي مر بأزمات وانتكاسات واتفاقات لا تنفذ، وصل مؤخراً إلى توقيع جانب مؤثر من القوى المدنية والثورية على «اتفاق إطاري» مع المكون العسكري، والذي خرجت منه ورش عمل كان منوطاً بها الاتفاق على مسار دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني.
وقد تفجر الخلاف بين الجانبين حين تمسك الجيش بأن يتم الدمج في خلال 24 شهراً، في حين رأت قوات الدعم السريع أن يتم على 10 سنوات، ما يعني ببساطة ترحيل مشكلة الدعم السريع في انتظار تغير الظروف، فعشر سنوات مدة طويلة جداً، خاصة أنها لن تلغي وجود الدعم السريع وتحلّها، إنما ستبقيها تمارس مهامها لعشر سنوات، وهو أمر لم يحدث في أي تجربة مماثلة، فعادة ما يتم دمج المليشيات والتنظيمات المسلحة عقب أي مواجهات أو حروب أهلية في سنوات محدودة، وبعد أن يتم حلها وتسليم سلاحها وتصبح القضية كيف يمكن دمج أفراد هذه التنظيمات في المجتمع والمؤسسات النظامية.
والمؤكد أن قضية توحيد المؤسسة العسكرية كان يجب أن تكون القضية الأولى عقب سقوط البشير، فلا يمكن نجاح أي انتقال ديمقراطي من دون وجود مؤسسة عسكرية موحدة مرتبطة بالدولة وليس النظام السياسي، ولا ينافسها أي تنظيمات عسكرية موازية.
وللأسف تم ترحيل هذه المشكلة أمام الأصوات الاحتجاجية والمواءمات التي تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة حتى انفجرت في وجه الجميع.
الوضع الحالي لا يبدو أنه سيحسم خلال ساعات، وإن كان من الوارد أن يحسمه الجيش لصالحه خلال أيام، ولكن خطر استمرار المعارك لأسابيع وأشهر وعمليات الكر والفر قائم أيضاً.
لقد تفجرت المعارك في البلد الشقيق، وسيدفع ثمنها الأبرياء من أبناء الشعب، وإن من سيحسم المعركة العسكرية لصالحه سيعمل على أن يحوّلها إلى مكسب سياسي.
{ كاتب وباحث في العلوم السياسية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك