في الثاني من مارس 2023 بدأنا بنشر المقالة الأولى من سلسلة مقالات بعنوان (من يحقق التنمية الاقتصادية المستدامة؟ الاقتصاد الرقمي أم الافتراضي أم الحقيقي؟ بهدف الاجابة عن هذا السؤال المهم والمحوري، الذي شغل العديد من كتاب وعلماء الاقتصاد المعاصرين، فضلا عن طلاب الاقتصاد والمهتمين بقضايا التنمية المستدامة، ولم تحسم الإجابة عنه الا في الأطر العامة، ولم ولن تتوقف الكتابة والبحث في جوانبه المختلفة وتوازناته العديدة. وتمهيدا للإسهام في الإجابة عن هذا السؤال من واقع بيئتنا العربية والخليجية خصوصا، استعرضنا واقع ومؤشرات ومتضمنات الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الافتراضي والعلاقة بينهما، واوضحنا اهميتهما الاقتصادية وتطورهما المعاصر على مدى اربعة مقالات سابقة، وآن الاوان للإجابة الصريحة عن هذا السؤال في ضوء ما خلص اليه الاقتصاديون المعاصرون بدءا من الإشارة إلى ان المقصود بالاقتصاد الحقيقي Real Economy، ويسمى أيضا بالاقتصاد المادي هو الوفورات المتحققة من قطاعات الزراعة والبستنة والصيد بكل انماطه، والقطاع العقاري والقطاع الصناعي والقطاع التجاري وقطاع النقل البري والبحري والجوي وقطاع الخدمات اللوجستية، والقطاع السياحي، وقطاع النفط والثروات المعدنية الأخرى، بالإضافة إلى القطاع المالي النقدي بما فيه البنوك وأسواق البورصة التقليدية، فضلا عن الخدمات التعليمية والصحية وغيرها. ويتميز بانه اقتصاد وطني بدرجة أساسية، حيث يمثل فيه المحتوى المحلي النسبة الكبرى من المدخلات، ويخضع للضوابط والقوانين والنظم والمؤثرات الوطنية بشكل رئيسي، بما في ذلك التحكم وطنيا بعملية التفاعل مع البيئة الخارجية الإقليمية والعالمية.
ان الاقتصاد الحقيقي هو أساس ظهور وتطور الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الافتراضي وانهم جميعا يكملون بعضهم البعض، ويشتركون ويتفاعلون في مجالات عديدة، مما يؤدي إلى تسريع عمليات التفاعل بين الناس والدول، وبالتالي يسهم الجميع بنسب وادوار متفاوتة في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. فعلى سبيل المثال النقود الافتراضية، يتم احتواؤها في القطاع الحقيقي، كما ان تكنولوجيا المعلومات وشبكات الإنترنت سريعة التطور مدمجة بنشاط الإنتاج المادي (الحقيقي)، ومجال العلاقات بين السلع والنقد.
في حين أن الاقتصاد الحقيقي يواجه مشاكل بسبب الاتجاهات الناشئة عن النقود الافتراضية كالتذبذب السريع في قيمتها خصوصا، وعن الاتجاهات الناشئة عن مفاصل الاقتصاد الافتراضي الاخرى عموما، ومع توسع الأخير، سيزداد عدد تلك المشاكل التي تواجه الاقتصاد الحقيقي، وستزداد الحاجة الى حلول نوعية لتجاوزها، وخاصة ان الشركات الكبرى في السوق بأنواعها الثلاث الرقمي والافتراضي والحقيقي ستهيمن على العلاقات الاقتصادية في المستقبل القريب، وتتعاظم أهمية كل منها في تحقيق الأرباح العالية والتشغيل وغيرها. وتزداد مساهمتها في الناتج المحلي للدول، لكن الامر الذي يتطلب الوقوف عنده ان النمو السريع الذي يشهده الاقتصادان الرقمي والافتراضي مقارنة بالاقتصاد الحقيقي سيقود إلى ارتفاع مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي بنسبة أكبر من الناتج الحقيقي. وإذا ما تتبعنا المخاطر والتهديدات العديدة التي تواجه الاقتصاد الرقمي والافتراضي، نجد ان التوسع المفرط لهما سيؤدي بسهولة إلى تراكم الفقاعات الاقتصادية، وانفجار تلك الفقاعات يمكن أن يؤدي إلى أزمة مالية وأزمة اقتصادية أولى اثارها انحدارهما بسرعة وضياع أموال ضخمة، وتسريح عمالة فنية عالية الكفاءة جراء ذلك. ومن المحتمل ان تنتقل الازمة إلى الاقتصاد الحقيقي وتتسبب بكوارث مالية واقتصادية يصعب الخروج السريع منها، كما ان نمو وهيمنة الاقتصادين الرقمي والافتراضي سيعزز من العوامل الخارجية للعولمة وتكامل النظام العالمي في الفضاء الحقيقي والرقمي، ومما يزيد من خطورة ذلك ان مفاتيح هذين الاقتصادين بيد دول وشركات كبرى محدودة العدد. وبالنتيجة فإن ذلك سيعزز ويعمق تبعية اقتصادات الدول النامية. فضلا من ان سيادة العولمة الرقمية والافتراضية سيقود إلى التأثير على وعي الفرد، والرؤية، والسلوك الاجتماعي، والموقف من مؤسسات الدولة، ويمكن أن تؤثر ايضا بشكل غير مباشر على القيم والتقاليد والهوية الوطنية. لذا، نجد أن دولا متقدمة في الاقتصادين الرقمي والافتراضي مثل الصين تؤكد ضرورة أن يتكيف حجم الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الافتراضي، ونسبة نموهما مع مستوى تنمية الاقتصاد الحقيقي، وان العلاقة المتوازنة بينهما هي مفتاح تعزيز التنمية الاقتصادية السليمة والسريعة. وبالتالي فإنها صاغت سياسات اقتصادية وتنظيمية تحد من التوسع المفرط في الاقتصادين الرقمي والافتراضي على حساب الاقتصاد الحقيقي. ولا يخفى على القارئ الكريم ان التهديدات والإرهاب السيبراني ولد من رحم الاقتصاد الرقمي ويتعاظم أثره وتتسع اساليبه مع تطور الاقتصاد الافتراضي. وللموضوع بقية في مقال قادم إن شاء الله.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك