في الرابع من أبريل 2023 احتفل حلف شمال الأطلسي «الناتو» برفع علم فنلندا في مقر الحلف ببروكسل لتصبح العضو 31 في الحلف، وتعقيباً على ذلك الحدث قال الرئيس الأمريكي جو بايدن: «نحن موحدون أكثر من أي وقت مضى»، في إشارة إلى تماسك حلف الناتو، في حين أن ينس ستولتنبرج الأمين العام للناتو قال: «إن تلك الخطوة سوف تجعل فنلندا أكثر أماناً والحلف أكثر قوة»، بينما جاء رد الفعل الروسي متمثلاً في تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو الذي أكد أن انضمام فنلندا إلى الحلف «يعزز مخاطر توسع المواجهة، وأن تلك الخطوة هي تكريس للعداء الأطلسي لروسيا»، إلا أن الأمر اللافت هو تأكيد شويجو أمرين؛ الأول: أن روسيا أرسلت منظومات إسكندر إم للقوات المسلحة البيلاروسية وهي المنظومات التي يمكنها استخدام الصواريخ التقليدية والنووية، والثاني: أن بعض الطائرات الهجومية في بيلاروسيا -الدولة الحليفة لروسيا- أضحى لديها القدرة على شن ضربات بمعدات تحمل أسلحة نووية.
انضمام فنلندا إلى الناتو ليس بالأمر المفاجئ؛ فقد تقدمت بطلب لعضوية الحلف مع السويد منذ ما يقرب من عام ومضى الحلف في الإجراءات الخاصة بانضمام الدولتين وهو ما تحقق بالنسبة إلى فنلندا وتعرقل للسويد بسبب بعض الاعتراضات داخل الحلف، إلا أن التساؤل الذي يطرح ذاته ما هي دلالات ذلك الانضمام في ذروة احتدام الحرب الأوكرانية؟ بمعنى آخر هل سيكون لتلك الخطوة تأثير في أي تسوية محتملة للأزمة الأوكرانية؟ وخاصة أن جوهر الصراع الأطلسي–الروسي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق هو ترحيب الحلف بانضمام دول المنظومة السوفيتية السابقة إلى عضويته، والذي كانت تراه روسيا اقتراباً مباشراً من مجالها الحيوي، صحيح أنه لم تكن هناك ردة فعل عنيفة من جانب روسيا بشأن انضمام بعض من تلك الدول في السابق إلا أن وجود توجهات من جانب النخبة الحاكمة في أوكرانيا للانضمام إلى الناتو قد حدا بروسيا إلى التدخل عسكرياً في أوكرانيا للحفاظ على ما يسمى «الدولة العازلة» والذي تراه روسيا صمام أمنها القومي، ولكن مع انضمام فنلندا فإن ثمة متغيراً جديداً في الصراع الأطلسي–الروسي لسببين؛ أولهما: مع أهمية القوات العسكرية لفنلندا التي سوف تمثل إضافة للقدرات العسكرية للحلف إلا أن مكاسب الناتو الحقيقية من تلك العضوية تعد لوجستية بالأساس وخاصة أن الحلف قد زاد مساحة حدوده مع روسيا لتبلغ 2600 كم بعد إضافة حدود فنلندا التي تبلغ 1300 كم بما يعنيه ذلك من قدرة فنلندا على الحصول على موارد الحلف جميعها حال تعرضها لهجوم، بالإضافة إلى زيادة النفوذ البحري للحلف في بحر البلطيق والذي يعد في الوقت ذاته خصماً من النفوذ الروسي في تلك المنطقة، وثانيهما: بغض النظر عن الإجراءات الإضافية الجديدة التي سوف تتخذها روسيا فإن النتيجة هي عسكرة الصراع الأطلسي–الروسي، بما يعنيه ذلك من أن حدوث أزمة صواريخ جديدة على غرار الأزمة الكوبية عام 1962 لم يعد أمراً مستبعداً في ظل إصرار الطرفين على المضي قدماً بما يرونه إجراءات مهمة للحفاظ على أمنهما القومي، ومع أنه من المبكر الحديث عن نقل الناتو قوات إلى أراضي فنلندا فإن الأمر سوف يرتبط بمسار الحرب في أوكرانيا وواقع موازين القوى بين الجانبين، وتظل كافة السيناريوهات قائمة في ذلك الصراع المعقد.
ومع أهمية هاتين الدلالتين فإن ثمة دلالة أخرى تعكس حقيقة مضمونها أن العالم سيكون إزاء صراع ممتد هو تمسك الناتو بما أسماه «سياسة الباب المفتوح»؛ أي أنه لا حدود ثابتة للحلف وسوف يظل مرحباً بأي دولة تتخذ دوله بشأنها قراراً بالإجماع للانضمام إلى عضويته الذي لم يكن بعضويته لدى تأسيسه عام 1949 سوى 12 دولة ومن خلال 9 مراحل للتوسع منذ عام 1952 حتى عام 2023 بلغ عدد أعضائه 31 دولة تتفاوت في الحجم والقدرات العسكرية، وهو الأمر الذي لن يثني روسيا عن مواجهته وليس بالضرورة تكرار الأزمة الأوكرانية في منطقة تماس استراتيجي مع الحلف ولكن ما يخشاه الحلف أمران؛ الأول: هو احتمال نشر روسيا أسلحة نووية في مناطق التماس الاستراتيجي كإجراء احترازي خلال الصراع مع حلف الناتو مع إشارة بعض المسؤولين في الولايات المتحدة إلى أنه لا توجد أسباب تدعو روسيا إلى القيام بهذا الأمر إلا أنه في الصراعات المعقدة تشهد الأزمات تحولاً سريعاً من مفهومي التلاعب والتوريط إلى حافة الهاوية التي تتقلص فيها المصالح المشتركة إلى حد كبير لصالح الأعمال العدائية، مع تأكيد أن الصراع يظل بعيداً عن مفهوم أزمة الانفلات بالنظر إلى قدرات الردع النووي لدى الطرفين، أما السبب الثاني فهو التقارب الروسي–الصيني، ومن مؤشراته التي تضمنت رسائل قوية للدول الغربية الزيارة التي أجراها الرئيس الصيني في 20 مارس 2023 لروسيا التي أكد خلالها شي جين بينغ أن الصين سوف تعمل على تحديث وتطوير أهداف الشراكة الكاملة مع روسيا حتى عام 2023 وقد كان لافتاً تصريح الرئيس الصيني «إن تغييراً لم يحدث منذ 100 عام يجري حالياً، ونقود معا هذا التغيير»، ورد الرئيس الروسي فلاديميير بوتين «أنا أوافق»، بما يعنيه ذلك من وجود تحول نسبي في هيكل النظام العالمي ربما لا يكون ذلك على المدى القريب ولكنه أصبح حقيقة ماثلة.
ومع أهمية ما سبق وفي ظل الارتباط الوثيق بين الأمن العالمي ونظيره الإقليمي وهو ما أكدته تداعيات الأزمة الأوكرانية الراهنة فإن التساؤل الذي يطرح ذاته: ما هي التأثيرات السلبية لاستمرار ذلك الصراع عموماً وعلى منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص؟ وفي تصوري توجد ثلاثة تأثيرات الأول: أن انشغال العالم بالأزمة الأوكرانية وتداعياتها يحد من أي جهود دولية لمواجهة التحديات المشتركة وهي عديدة منها الأمن الغذائي والتغير المناخي والحد من الانتشار النووي لسبب بسيط هو توظيف القوى المتصارعة كافة الأوراق لديها خلال أزمات من هذا النوع، والثاني: احتدام الصراع والتنافس الدولي مجدداً تجاه منطقة الشرق الأوسط ما يزيد من حدة الاستقطاب للأطراف الإقليمية والذي لن يكون له تأثير على مواقف بعض الدول فحسب بل تماسك بعض التنظيمات الإقليمية ذاتها بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف عن توصيف الوضع بأنه «حرب باردة جديدة»، والثالث: انحسار المواقف الدولية تجاه أزمات الأمن الإقليمي يعني إطالة أمدها ومن ثم استمرار تهديد الأمن الإقليمي والعالمي معاً في ظل الارتباط الوثيق بين المستويين.
وأخيرا وليس آخراً في ظل توازن الردع النووي الروسي–الغربي فإن التفاوض يظل خياراً حتمياً ولكن في ظل أي ظروف وبأي ثمن يتحقق ذلك؟
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك