الجمهورية الفرنسية دولة كبرى لها مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة حالها حال الدول الكبرى الأخرى ولها تاريخها الحافل بغض النظر عن الجوانب السلبية لعلاقاتها وتصرفاتها وتعاملها مع مستعمراتها في القارة السمراء إفريقيا ولذلك من المفترض ألا تشهد مثل هذه الموجات من الاحتجاجات والاضطرابات المتكررة والخطيرة التي تضر بمكانة فرنسا الدولية كدولة مستقرة لها مكانة تليق بها بين دول العالم.
من الملاحظ أن فرنسا خلال السنوات القليلة الماضية تعيش حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والأمني فمن احتجاجات السترات الصفراء في ديسمبر 2018 إلى الاحتجاجات التي خرجت على الإساءة إلى الإسلام إلى الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها شوارع المدن الفرنسية الرئيسية وخصوصا باريس التي خرجت فيها مظاهرات غاضبة غالبيتهم من الشباب ضد إصلاح نظام التقاعد والمتضمن تعديل سن التقاعد من 62 إلى 64 المثير للجدل ما لبثت أن شملت قطاعات عديدة وأبرزها مصافي النفط وعمال النظافة في باريس حيث تصدت لها قوات مكافحة الشغب بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات بعد أن اشتبكت مع المتظاهرين ما أدى إلى حدوث إصابات بين الجانبين واعتقال العشرات من المتظاهرين في ظاهرة تسيء إلى سمعة فرنسا بعد إن لجأت الحكومة الفرنسية إلى إصدار نظام التقاعد استنادا إلى المادة 49.3 من الدستور التي تسمح للحكومة وفق ضوابط معينة بإصدار مثل هذا النظام دون تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية عليه مما زاد من غضب النقابات العمالية والأحزاب المعارضة في البرلمان التي تقدمت بمذكرتين لحجب الثقة عن الحكومة في إطار معارضتها لإصلاح النظام وبالتالي إسقاطه أو استقالة الحكومة.
حكومة إيمانويل ماكرون تهدف من رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 إلى ضمان عدم إفلاس المنظومة التقاعدية الفرنسية التي تعاني من صعوبات مالية كبيرة منذ فترة ولذلك ترى أنه من الضروري رفع سن التقاعد إلى 64 وهذا ما عارضته أغلب القطاعات الصناعية والنقابات واعتبرته انتقاصا من حقوق العمال ولذلك خرجت إلى الشوارع معبرة عن رفضها القاطع لهذا النظام ما أدى إلى شل الحركة الاقتصادية والتجارية وتراكم المخلفات والنفايات والقمامة في شوارع باريس بسبب إضراب عمال النظافة فكانت هذه الاضطرابات تمثل التحدي الأكبر للرئيس ماكرون وهو يبدأ فترة ولايته الرئاسية الثانية.
بالرغم من نجاح الحكومة الفرنسية من تمرير النظام في مرحلته الأولى بعد أن صادق عليه مجلس الشيوخ الفرنسي وبالرغم من تراجع حدة الاحتجاجات وأعداد المتظاهرين فإن ذلك لا يعني أن المسألة انتهت وأن إصلاح نظام التقاعد في طريقه إلى التنفيذ لأن أحزاب المعارضة في البرلمان بزعامة مارين لوبان من حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف قد تقدمت باقتراح لحجب الثقة عن الحكومة مع تأكيد الأحزاب الأخرى من اليسار بالتصويت لصالح اقتراح حجب الثقة عن الحكومة، وهذا يتطلب تصويت الأكثرية المطلقة في الجمعية الوطنية على اقتراح حجب الثقة أي 287 صوتا وهذا يتطلب أيضا تصويت نحو 30 نائبا يمينيا.
وفي ظل هذه الأوضاع المتوترة بين الحكومة والمعارضة فإن فرنسا أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة لهذه الأزمة الجديدة التي عصفت بفرنسا وهي على ما يبدو لن تكون الأخيرة في الأوضاع الصعبة التي تعيشها فرنسا بسبب الأوضاع المالية والاقتصادية الصعبة وتداعيات الأزمة الأوكرانية على الاقتصاد الفرنسي:
الأول: نجاح الحكومة الفرنسية في اجتياز الاختبار بالتصويت لصالح مشروع القانون وبالتالي المصادقة عليه وإقراره بشكل رسمي وقانوني وعلى الجميع الالتزام بقرار الجمعية الوطنية الفرنسية.
الثاني: اللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور وهذا ما فعلته الحكومة الفرنسية إلا أنها في المقابل قد تتعرض إلى خطر حجب الثقة خصوصا وأن الأحزاب اليمينية واليسارية مصرة على التقدم باقتراح حجب الثقة عن الحكومة في حالة التمسك به.
الثالث: إقدام الحكومة الفرنسية على عرض التعديلات للتصويت عليه من قبل نواب الجمعية الوطنية ما يعني في حالة رفضهم فشل ذريع للحكومة وبالتالي استمرار الفوضى والاحتجاجات في المدن والشوارع الفرنسية وتعطيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك