لماذا خلق الله تعالى الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وهو سبحانه يعلم أنه من الممكن أن يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، أو بمعنى أصح بيده التدمير، وبيده التعمير، وهذا السؤال قد يشعرنا بالحرج حين نطرحه على أنفسنا فما بالكم حين علا به صوتنا، لأن الله تعالى لا يُسْأل عما يفعل وهم يُسْألون، يقول تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون) الصافات / 22. ولقد سأل الملائكة ربهم حين قال لهم الله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة / 30.
لم يحرم الحق سبحانه عليهم السؤال، ولم يستنكر عليهم أن يسألوا ما ليس لهم به من علم، بل على العكس من ذلك أراد أن يجيب عن أسئلة يتحرج كثير من الناس في التعرض لها، فجعلها تأتي على ألسنة الملائكة.
ومن الأسئلة التي انشغل بها المسلمون سؤال: نزول العذاب بأمة وفيها أناس صالحون أجاب عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في رؤيا رآها، عن أم المؤمنين زينب قالت: «استيقظ النبي (صلى الله عليه سلم) من النوم محمرًا وجهه يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد سفيان: تسعين أو مئة قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» رواه الإمام البخاري في صحيحه.
وها نحن نعيش ما حذرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منه، ولقد سبق للقرآن أن حذرنا منه في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم / 41.
ومعنى «ظهر الفساد» أي أن العصاة قد تجرؤوا على أوامر الله تعالى، ولم يجدوا من يستنكر عليهم فضلًا عمن يردعهم، وكما أن الدال على الخير، وهم في الأجر سواء، فكذلك الدال على الشر، المعين عليه يناله من العقوبة مثل ما ينال الفاعل الذي عصى. والأمة بيدها، وبإرادتها البناء والتعمير، وأيضًا هي قادرة بإرادتها على الهدم والتدمير، كل ذلك أكدته الآية الكريمة 41 من سورة الروم.
ومن مقتضى العدل الإلهي أن الحق سبحانه وتعالى لن يعاقب الناس على جرم لم يرتكبوه، أو فعل سيئ نهوا عنه، فخالفوا أوامر الله ونواهيه، قال صلوات ربي وسلامه عليه: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» رواه الإمام البخاري في صحيحه.
إذًا، فمن رحمة الله تعالى أنه سبحانه لا يكشف ستر العصاة إذا لم يفضحوا سترهم ما لم يبادروا هم بكشفه، وفي هذا رجاء قبول توبة التائب بدليل قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم / 41. والوعيد بإذاقة العصاة بعض العذاب، فيه رجاء قبول التوبة، ولو أنزل بهم العذاب كله لما كان هناك رجاء في قبول التائبين إذا تابوا، وأنابوا وهذا من لطف الله تعالى بعباده، ورحمته بهم، وكم هي رحمة الله تعالى الواسعة حين يقول سبحانه: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر / 53.
وخَتْم الآية الجليلة بقوله تعالى: (إنه هو الغفور الرحيم) آية كريمة مضمخة بالرجاء، بل وبعظيم الرجاء، وفيها تأكيد لهذا الرجاء في المغفرة، وقبول التوبة، وأن على المؤمن ألا يبالغ في اليأس إلى حد القنوط من رحمة الله تعالى.
إذًا، فكما أن الهدم والتدمير بيد العبد وإرادته، وأنه لن يحاسب على فعل خارج إرادته، فكذلك البناء والتعمير بيده وبإرادته، ولن ينفعه أن يلقي باللوم على الشيطان يوم القيامة، لأن الشيطان وباعترافه ليس له سلطان على أحدٍ من العباد، قال تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) إبراهيم / 22.
إذًا، فالأمة بيدها، وبإرادتها البناء والتعمير، وكذلك بيدها وبإرادتها الهدم والتدمير، وعليها أن تختار بينهما، وعلى هذا الاختيار يتوقف مصيرها، وتنهض حضارتها أو تنهار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك