بدأ اهتمامي بأمراض نزف الدم الوراثي، والتركيز على احتياجات وهموم مرضى الهيموفيليا حول العالم منذ فترة طويلة وليس منذ ست سنوات مضت، ولا عندما تواصل معي لأول مرة الناشطون الإيطاليون المرحوم جابريللي كالزاني مريض الهيموفيليا والإيطالي فلسطيني الأصل الدكتور محمد عواد، ولم يزدد هذا الاهتمام بالهيموفيليا لدي عندما بدأ هؤلاء الناشطون بتنفيذ مشروع ال Haemo-Pal، فهذا المشروع يحمل نفسا و جهدا إنسانيا شريفا وعظيما يهدف إلى المساهمة والاعتناء بشريحة مرضى الهيموفيليا المهمشة في فلسطين، حيث ينتظر هؤلاء المرضى في الضفة الغربية وقطاع غزة الحصول على الرعاية الشمولية المناسبة لتقدم لهم منذ وقت طويل.
بدأ الاهتمام بمرضى الهيموفيليا قبل ما يقارب ثلاثين عاما عندما بادرت وكنت أحد المؤسسين للجمعية الفلسطينيةً لأمراض نزف الدم أثناء إقامتي خارج فلسطين في الولايات المتحدة الأمريكية.
في واقع الأمر بدأ اهتمامي وعنايتي بقضية الهيموفيليا منذ سنوات طويلة وحتى قبل أن أصبح عضو مجلس إدارة جمعية الهيموفيليا لولاية ميتشغان الأمريكية في أواسط تسعينيات القرن الماضي حيث خدمت فترة أربع سنوات متطوعا في تلك الجمعية.
يعود سبب اهتمامي برعاية مرضى الهيموفيليا ومرضى نزف الدم الوراثي بشكل أساسي لسبب وحيد ينبع من حقيقة كوني ولدت شخصيا مصابا بهذا المرض، وفي أزقة القدس القديمة من الأرض الطيبة المباركة قبل حرب عام1967 تلقيت أول رعاية صحية، وهذا المرض أصبح جوهر ونمط حياتي منذ تلك اللحظة ويأخذ جل اهتمامي ومشاعري وشغفي منذ طفولتي.
بدأت التعاطف أو التطوع مع أخوتي وأخواتي في الدم في مجتمع الهيموفيليا وهم المهمشون ليس في فلسطين المحتلة فقط، بل حول العالم وليس بغرض أن أملأ وقت فراغي أو من باب المساهمة والمشاركة المجتمعية. بالتطوع لقضية مجتمعية.
أنا جزء من هذه القضية الإنسانية أكثر من كوني متعاطفا مع هؤلاء البشر فأنا أعيش معاناتهم وآلامهم كمرضى هيموفيليا على مدار الساعة ومنذ ولادتي. وأدرك احتياجاتهم وكيف يشعرون.
ولدت في ستينيات القرن الماضي لعائلة فلسطينية تحمل الجنسية الأمريكيةً وتعيش في مدينة البيرة من فلسطين وعشت معاناة وآلام وسوء التشخيص لمرض الهيموفيليا وعدم توفر الرعاية الشمولية لهؤلاء المرضى منذ ذلك التاريخ.
عانيت بل مازلت أعاني من حالات النزف المتكرر ومضاعفاته كأي مريض هيموفيليا حول العالم وهذا يشمل تلف المفاصل وضعف العضلات والنزف الداخلي للأعضاء وأعيش عدم توفر أو عدم انتظام توفر أو سوء العلاج منذ صغري، حيث أدى ذلك إلى إجراء عملية زراعة كبد لي قبل خمسة عشر عاما في الولايات المتحدة الأمريكية وحتى اللحظة أعاني من مضاعفات النزف المستمر هذا.
تسبب سوء الرعاية الصحية لي كمريض هيموفيليا بتلف وتشمع في الكبد وكان الحل الوحيد لإنقاذ حياتي من الموت المحتم والذي كنت قاب قوسين أو أدنى منه هو زراعة الكبد وبسبب تلوث الدم ومشتقاته كالبلازما والكريو التي أعطيت لي كعلاج في فترات سابقة والتي كانت منتشرة أو فقط كان يتم استخدامها في علاج الهيموفيليا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
ناهيك عن المعاناة من تلف مفاصلي وضعف عضلاتي فإني أتابع وأدرك المعاناة الصحية من هذا المرض والتي يعيشها أقراني مرضى الهيموفيليا في فلسطين بالإضافة إلى معاناتهم من عواقب نير وظلم الاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967.
أليس من حقي أن أتساءل إن كان العالم الخارجي أفرادا ومؤسسات ومن المحيط إلى الخليج وفي القارات المختلفة وكل من هو ليس فلسطينيا يدرك ماذا يعني أن يعيش مريض نزف الدم الوراثي (الهيموفيليا) في فلسطين وكيف يستمر هذا الإنسان في الحياة ليس لصعوبة مرضه بل العيش أيضا تحت نير الاحتلال وممارساته في آن واحد.
هل يستطيع أي إنسان أن يتخيل مقدار المعاناة والألم التي يمر بها مريض الهيموفيليا نتيجة مرضه ومضاعفات النزف يوميا وغياب أساسيات الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية ممزوجةً بفظائع وتأثيرات الاحتلال العسكري لبلاده؟
في أواسط ثمانينيات القرن الماضي اتيحت لي الفرصة لأن أهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية فانتهزت هذه الفرصة، وانتقلت إلى العيش في مدينة ديترويت الأمريكية بغرض أن أحصل على رعاية صحية أفضل ولتعزيز فرصتي التعليمية والوظيفية نتيجة الوضع السياسي القائم في فلسطين المحتلة وصعوبات الرعاية الطبية التي ذكرتها في الأعلى.
قررت العودة إلى فلسطين بعد عقدين من الزمن وفي عام 2004 وكان هذا قراري وخياري، لإيماني ورؤيتي برد الجميل ومساعدة فئة ومجتمع مرضى نزف الدم الوراثي والمهمشين في الأرض المحتلة - فلسطين، وكما ذكرت صديقتي ومرشدتي لوري كيلي الناشطة والكاتبة الأمريكية في مجال الهيموفيليا في تقديمها لكتابها قائد الهيموفيليا.
نجد اليوم، وبعد ثمانية عشر عاما من عودتي إلى فلسطين ونحن في عام 2023 مجتمعات الهيموفيليا في الدول الغربية والمتقدمة قد انتقلت إلى مستوى أعلى ومتطور بالكفاءة وجودة في رعاية الهيموفيليا وتحت مبدأ «من العناية إلى الشفاء» وإنتاج واستخدامً أدوية جديدة ونقية ومتطورة من العوامل المخثرة (الأدوية الوريدية التي يحتاجها مرضى نزف الدم الوراثي). ويستخدم المرضى في تلك الدول أدوية يطول وجودها في جسم المريض فترات زمنية أطول، بالإضافة إلى إنتاج كثير من الدراسات والأبحاث العلمية عالية القيمة والجودة وخاصة في الهندسة الجينية لعلاج دائم لأمراض نزف الدم الوراثي.
وفي الجانب الآخر نجد أنفسنا في فلسطين عام 2023 مازلنا كمرضى هيموفيليا وعائلاتهم ومقدمي الخدمات نواجه صعوبات فائقة في تشخيص وتحديد أي من أمراض نزف الدم الوراثيةً المختلفة يعاني منها المريض، حيث تقوم الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم وبانتظام بتوثيق صعوبة تشخيص حالات كثيرة من المرضى، ومتابعة شح أو عدم توفر أو عدم مقدرة هؤلاء المرضى على الحصول على العوامل المخثرة اللازمة للعلاج أو الوصول إليها، والتي يحتاجها المرضى. على مدار الساعة منذ ولادتهم، حيث يضطر المرضى إلى أخذ وحدات دم أو مشتقات الدم كالبلازما أو الكريو كبديل للعلاج المركز وإن توفر.
بينما تزداد الحاجة إلى رعاية وخدمات نفسية واجتماعية للمواطن الفلسطيني العادي الذي يعيش في ظروف احتلال عسكري إسرائيلي وفصل جغرافي وضيق اقتصادي واجتماعي واضح، إلا أن خصوصية مريض نزف الدم الوراثي في فلسطين يجب أن تبرز أيضا وتظهر للعيان بوضوح وكأولوية أكبر لرفع المعاناة عنه ولدمج مرضى الهيموفيليا مجتمعيا كون هذه المأساة تتضاعف وإن هذا الإنسان وآلامه ومعاناته وحاجته إلى الخدمات الطبية والنفسية والاجتماعية لا تبرز للواجهة ولا تؤخذ بعين الاعتبار مجتمعيا ولا رسميا ولا دوليا.
{ جاد كنعان جادالله الطويل ناشط في مجال الحقوق فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية ويعيش حاليا في فلسطين المحتلة من مؤسسي ورئيس مجلس إدارة الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك