بعد الصدمات التي سببها وباء «كوفيد-19»، واندلاع الحرب الأوكرانية، بدأ الاقتصاد العالمي وأسواق النفط العالمية تستقر على الرغم من استمرار ارتفاع أسعارها بالنسبة إلى المستهلكين، وتذبذب مستويات الطلب من قبل الموردين الرئيسيين. ومع ذلك، فإنه في الأشهر الأولى من عام 2023، أدت الحرب، وسلسلة الأزمات المصرفية الغربية الكبرى، والشكوك حول الانتعاش الاقتصادي في الصين إلى تحذير «المنتدى الاقتصادي العالمي»، من احتمالية «وقوع ركود اقتصادي عالمي» خلال العام المقبل.
وبالنسبة إلى مصدري الطاقة الرئيسيين -بما فيهم أعضاء أوبك- فإن احتمالية حدوث تدهور اقتصادي عالمي قد يرجع إلى انخفاض مستوى الطلب على صادراتهم من الطاقة، وبالتالي، انخفاض أسعار النفط ومبيعاته. ومع احتمالية حدوث مثل هذا السيناريو، أشارت «أمريتا سين»، من شركة «إنرجي آسبيكتس»، إلى اتخاذ منظمة «أوبك»، لخطوة «وقائية» من أجل «استباق أي ضعف محتمل في مستوى الطلب» في أوائل أبريل 2023، عبر خفض حصص الإنتاج الحالية بواقع 1.66 مليون برميل يوميًا.
وعلى الرغم من الاعتراف بالأسس المنطقية لمثل هذا الخفض، إلا أن القرار كان «مفاجأة»، بالنسبة إلى المراقبين الغربيين، خاصة مع إعلان السعودية -أكبر منتج في المنظمة- خفض مستويات إنتاجها اليومي بمقدار 500 ألف برميل. ووصف «بن كاهيل»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، هذه الخطوة بأنها «مدروسة»، من قبل منتجي النفط، وقد «هزت السوق». وأشار «ستانلي ريد»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أنها «أعادت تأكيد الرياض كعملاق عنيد في سوق النفط». وتم تسليط الضوء على التأثيرات الجيوسياسية المهمة لهذا الإعلان. وعلقت «ألكسندرا شارب»، في مجلة «فورين بوليسي»، بأنه «انتصار كبير للسياسة النفطية للسعودية ضد الولايات المتحدة، و«علامة أخرى على العلاقة المتوترة بين شريكين موثوقين منذ فترة طويلة».
ومع اتفاق مجموعة من مصدري النفط غير الغربيين سابقًا على خفض إجمالي إنتاجهم الكلي بمقدار 2 مليون برميل يوميًا حتى نهاية عام 2023، فيما يُعرف بـ«خفض الإنتاج الطوعي»؛ فإن السعودية ستخفض الآن حصصها اليومية بمقدار 500 ألف برميل يوميًا، أي ما يعادل 5% من إجمالي الرقم السابق. إلى جانب ذلك، سيخفض العراق إنتاجه بواقع 211 ألف برميل يوميًا، والإمارات 144 ألفًا، والكويت 128 ألفًا، وكازاخستان 78 ألفًا، والجزائر 48 ألفًا، وسلطنة عمان 40 ألفًا. وستواصل روسيا، التي بدأت بخفض إنتاجها بمقدار 500 ألف برميل يوميًا ردًا على العقوبات الغربية، هذا المستوى من الخفض أيضًا. ووفقاً لوكالة «رويترز»، يرفع هذا الخفض الأخير جنبًا إلى جنب مع الذي تم إعلانه سابقًا، إجمالي تخفيضات «أوبك بلس»، للإنتاج إلى 3.66 ملايين برميل يومياً، بما يعادل 3.7 % من الطلب العالمي.
وفي معرض تأمله لهذا الأمر، أشار «كاهيل»، إلى أن المحللين لم يتوقعوا «المزيد من تغيير مسار» المنظمة، بعد أن صرح وزير الطاقة السعودي «عبد العزيز بن سلمان»، في منتصف مارس 2023، أن «العقلانية»، و«مسار العمل الواضح»، «يلزم المنظمة بمعدلات الإنتاج المتفق عليها في أكتوبر 2022.
وبالفعل، انعكست مؤشرات الإعلان بين محللي السوق في التعاملات الفورية، وارتفعت أسعار النفط بنسبة 8%، تاركة خام «برنت»، عند سعر 86 دولارًا للبرميل. ومع استقرار الأسعار منذ ذلك الحين، رأى «دان بيكرينغ»، من شركة «بيكرينغ إنرجي بارتنرز»، أن خفض الإنتاج سيرفع الأسعار «بشكل ملموس» على المديين القصير والمتوسط، وربما بما يصل إلى 10 دولارات للبرميل الواحد. وبالمثل، توقعت شركة «ريستاد إنرجي»، أن الخفض «سيزيد من تضييق الخناق على سوق النفط»، وقد يذهب بسعر خام برنت إلى «نحو 100 دولار للبرميل في وقت أقرب مما كان متوقعًا في السابق»، ناهيك عن إمكانية الوصول إلى 110 دولارات للبرميل خلال صيف العام الحالي.
وفي تحليلهم للأحداث، أدرك المعلقون حجم المخاوف التي تبرر موافقة أعضاء «أوبك بلس»، على خفض معدلات الإنتاج، وعلى الأخص ما يتعلق بالركود الاقتصادي العالمي المحتمل الذي سيؤثر في مستويات الطلب. وأشارت «شارب»، إلى تأثير «التحول في الاقتصاد العالمي على تلك المعدلات»، خاصة مع إعادة فتح الاقتصاد الصيني، وإقدام «بكين» على تخفيف سياستها المعروفة باسم «صفر كوفيد»، لمكافحة وباء كورونا، وهو ما يوفر «اللحظة المناسبة لدول المنظمة لرفع أسعار النفط»، وجني الأرباح.
ومع ذلك، تم تسليط الضوء أيضًا على الانخفاض المطرد في أسعار النفط خلال الأشهر الستة الماضية. وأشارت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، إلى انخفاض سعر خام «برنت» إلى «أدنى مستوى بالقرب من 70 دولارًا للبرميل» في أواخر مارس 2023. ومع قرب نصف العام الحالي، بات «يتم التداول في نطاق ضيق نسبيًا ما بين 75، و90 دولارًا للبرميل». وفي ظل هذه الديناميكية، أشار «كاهيل»، إلى مدى قلق السعودية من «علامات الانتعاش الاقتصادية الضعيفة نسبيًا في الصين»، في حين أيضًا أن انهيار بنك «سيليكون فالي»، والاستيلاء القسري على مصرف «كريدي سويس»، قد شهد مؤخرًا هبوطا في أسعار النفط في المقابل.
وعليه، أشار «ديفيد شيبارد»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، إلى أن التفسير «البسيط» لخطوة أعضاء أوبك هو رغبتهم في «دعم سعر النفط، أو من الناحية المثالية - دفعه للارتفاع». ومع إدراك «كاهيل»، أن الدول المنتجة للنفط ترغب في «الدفاع عن مستوى 80 دولارًا للبرميل»، خلص إلى أن خفض الإنتاج، هو «دليل على أن المنظمة لن تكون مكتوفة الأيدي مع انخفاض الأسعار ببطء، والتشكيك في مستويات الطلب المستقبلية». وبالإشارة أيضًا إلى الضرورة الملحة لهذه الخطوة، استشهد «توم ويلسون»، و«ديريك بروير»، في «فاينانشيال تايمز»، بأن الإعلان كان خارج نطاق اجتماعات «أوبك بلس» الرسمية والمقررة، ويشير هذا إلى «عنصر الأهمية» من قبل أعضاء المنظمة.
وعلى الرغم من أن «كاهيل»، أكد أن تخفيضات «أوبك»، ما هي إلا إجراء «استباقي» من قبل أعضائها، وأقرت «شارب»، أنها خطوة جاءت «نتيجة أسابيع من حالة عدم اليقين بشأن الاقتصاد العالمي»؛ فمن المهم أيضًا تأكيد معارضة الحكومات الغربية لهذه الخطوة، وعلى الأخص «الولايات المتحدة». وفي حين شكك «كاهيل»، في التأثير الملموس لخفض إنتاج «أوبك»، على سوق الطاقة العالمية، على أساس أن «التخفيضات الفعلية ربما تكون أقل بكثير»، من «الرقم الرئيسي» للمعروض من الإمدادات؛ فقد تمت الإشارة إلى أن المنظمة التي تقودها السعودية تعمل ضد المصالح الاقتصادية للدول الغربية. ورأى «بروير»، و«شيبارد»، و«ويلسون»، أن التخفيض الأخير في إنتاج «أوبك»، يضع «الرياض»، على مسار تصادمي مع «واشنطن»، لاسيما مع وجود علاقات سعودية أوثق مع الصين وروسيا.
وعلى الجانب الآخر، أوضحت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، مدى إحباط المملكة من سياسات الولايات المتحدة، وعلى الأخص حالة الغضب السعودية من رفض «إدارة بايدن»، مؤخرًا إصدار أوامر طارئة لإعادة ملء مخزونها الاستراتيجي، الذي تم استنزافه عام 2022، ردًا على تخفيضات إنتاج أوبك السابقة، بالإضافة إلى فشل «واشنطن»، في الالتزام بـ«تطميناتها السابقة للرياض بأنها ستتدخل لإجراء عمليات شراء لاحتياطيها الاستراتيجي إذا انخفضت الأسعار»، وهما ما كان لهما بالغ الأثر في قرار الرياض.
علاوة على ذلك، يأتي إعلان «أوبك» الأخير في سوق الطاقة العالمية، بعد موافقة «السعودية»، على عودة العلاقات الدبلوماسية مع «إيران»، ضمن اتفاق توسطت فيه «الصين»، وهو الذي أشار إليه «بيتر بيكر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه ترك واشنطن «على الخطوط الهامشية» لاهتمامات الشرق الأوسط.
وعندما يتعلق الأمر بالشؤون الجيوسياسية، فقد رأى المعلقون الغربيون أن خفض الإنتاج يعد «دليلا إضافيا» على الاختلاف الاستراتيجي في المنطقة بين الولايات المتحدة، وشركائها الأمنيين على المدى الطويل. وكتب «شيبارد»، أن القرار «ليس فقط خطوة دفاعية»، لكنه أيضًا «خطوة حازمة» قادتها السعودية. وعلقت «هيليما كروفت»، من شركة «آر بي سي كابيتال ماركتس»، بأنه «دليل على سياستها الأكثر استقلالية»، وعندما يقترن باتفاق عودة العلاقات -المذكور أعلاه- فإن الرياض بصدد إرسال رسالة إلى «واشنطن»، مفادها أنه «لم يعد هناك عالم أحادي القطبية».
وتحليلاً لهذا الأمر، تم تأكيد القوة النسبية للموقف السعودي وضعف الجانب الغربي. ورأت «شارب»، أن «تخفيضات الإنتاج الهائلة من قبل أوبك بلس»، من المرجح أن «تعزز المركز الاقتصادي العالمي للمملكة»، لاسيما مع قلق المسؤولين في «واشنطن»، بشكل خاص من أن خفض الإنتاج سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الوقود محليًا. وتشير «ليفيا جالاراتي»، من شركة «إنرجي أسبكتس»، إلى أن إفراغ احتياطي الولايات المتحدة الاستراتيجي خلال عام 2022 لتعويض تخفيضات إنتاج المنظمة قد تركها الآن «من دون خيارات»، لتخفيف حدة التأثير المتوقع لتخفيضات الإنتاج الحالية والمستقبلية من قبل الدول المصدرة للنفط. وأوضح «شيبارد»، أن أعضاء أوبك بلس «لا يحتاجون إلى القلق كثيرًا بشأن ذهاب حصصهم في السوق للمنافسين»، حيث إن إنتاج الغاز الصخري الأمريكي «لم يعد ينمو بوتيرة سريعة»، كما كان قبل عقد من الزمان.
بالنسبة إلى «كروفت»، فإن استعداد «المملكة»، لتحمل الصدام المتزايد» في علاقتها مع «واشنطن»، يعكس «الحد الأدنى» النهائي المتمثل في أن لكل منهما «أسعارا نفطية مستهدفة مختلفة وفقًا لما تشير إليه سياستهما الرئيسية». وعلى الرغم من أن المحللين أقروا بالمنطق السليم لدى أعضاء «أوبك»، في خفض حصص الإنتاج الخاصة بهم العام الحالي، خاصة مع تأكيد «إد مورس»، من شركة «سيتي جروب»، على الحاجة إلى «دعم السوق الذي كان يبدو ضعيفًا، إلا أن هذا الخفض أثار قلقًا من الآثار الاقتصادية المحتملة على الدول الغربية التي تعاني بالفعل من ارتفاع معدلات التضخم وشبح التورط في الركود المالي.
على العموم، أشار «شيبارد» إلى أن السيطرة على التضخم بات «الشاغل الرئيسي» للاقتصاديين الأمريكيين والبريطانيين والأوروبيين، فضلا عن التعامل مع قضية خفض الإنتاج من قبل «أوبك». وعلى الرغم من إشارة «بجارني شيلدروب»، من «البنك السويدي»، إلى أن وصول سعر برميل النفط لـ 100 دولار في عام 2023، «لا ينبغي أن يلحق الكثير من الضرر» بالاقتصاد العالمي، وأنه لن يؤدي إلا إلى «بعض الرياح المعاكسة»، فقد بات هناك حقيقة مفادها أن «أوبك تتمتع الآن بنفوذ أكبر في سوق الطاقة الدولية، أكثر مما تعتقد الدول الغربية، وهي حقيقة من المحتمل أن تكون ضمن الديناميكيات الأساسية لتعزيز علاقاتهم الجيوسياسية مع هذا التكتل خلال العام المقبل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك