تعد الديوانيات والمجالس في مملكة البحرين والكويت، أحد الخصائص الثقافية والاجتماعية الأصيلة المتوارثة من الآباء والأجداد، ولها تقاليد قديمة، رافقت أهل هذه البلاد في كثير من مراحل تطور دولتهم، فهي وسيلة لتحقيق الترابط الاجتماعي بين المواطنين، ونقل العادات والقيم بين الأجيال المختلفة، ولها دور مهم في تعزيز اللحمة الوطنية، وتوثيق الصلات، وتجسيد قيم التواصل والتآلف بين جميع أطياف المجتمع، كما تعد صيغة ديمقراطية مباشرة تمارسها المجتمعات هناك، بحيث صارت جزءًا من تراثها وعاداتها وقيمها، وكما وصفها أحد الباحثين، فهي تتجاوز الأسرة والعشيرة والقبيلة، ولكن دون الدولة، وتظل رمزًا لقيم المواطنة الصالحة، وتقوية النسيج الاجتماعي.
وبجانب المجالس الأسبوعية أو الديوانيات التي تدار على مدار العام، هناك المجالس والديوانيات الرمضانية، التي تعد أيضًا من السمات المميزة للمجتمعات الخليجية، خاصة البحرين والكويت، وجزءًا لا يتجزأ من عاداتهم خلال شهر رمضان المبارك؛ حيث تستقطب أبناء الوطن والمقيمين، ومزيجا من المسؤولين ورجال الأعمال والمثقفين والشخصيات الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك الوسط الدبلوماسي الذي يحرص، كما يقول المنسق المقيم لأنشطة الأمم المتحدة لدى البحرين على حضورها، باعتبارها «فرصة للتعرف على عادات المجتمع البحريني، والتواصل مع مختلف القطاعات الرسمية والشعبية»، كما وصفها السفير الألماني بالمملكة بأنها «تقاليد تشكل ميزة اجتماعية رائعة من شأنها تعزيز تماسك المجتمع».
هذه المعاني، أكدها الباحث الكويتي «عبد الله العتيبي»، من أن الوسط الدبلوماسي يحرص على زيارة الدواوين والمجالس بصورة منتظمة، ليس في رمضان وحسب، بل في المناسبات العامة والخاصة، حيث تمثل بالنسبة إليهم فرصة للتواصل مع المجتمع ومعرفة طبيعته، بعيدا عن الرسميات، وتطويرا للعلاقات مع بلدانهم، فضلا عن كونها تفيدهم في العمل، عند كتابة تقارير واضحة إلى حكوماتهم عن التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتسجيل تصورات المواطنين بشأن مختلف القضايا، لاسيما أن النقاشات في الديوانيات والمجالس لا توفر موضوعا إلا وتتحدث عنه، كما أصبحت مادة إعلامية وخبرية للصحافة.
وتزداد أهمية المجالس والديوانيات الرمضانية لما لهذا الشهر من خصائصه الدينية والاجتماعية، في ظل اجتذابها لكل شرائح المجتمع؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وأكاديمية وإعلامية، ما يجعلها بمنزلة برلمانات مفتوحة على الأفكار والاقتراحات والتصوّرات المختلفة، كما يرتادها كل فئات المجتمع من أفراد الشعب والوجهاء وقيادة البلاد، فتتحول إلى مؤتمرات شعبية تُناقش فيها قضايا وأمور تمثل فرصة لطرح وتبادل وجهات النظر أمام القيادة والمسؤولين مباشرة، وسماع ردودهم حولها، من دون قيود بروتوكولية. ولأنه يحضرها كل الأعمار؛ فهي تؤدي دورًا يماثل دور المؤسسات التعليمية، فهي بمثابة مدارس لتعلم القيم والفضائل.
وفي البحرين تحظى المجالس الرمضانية بأهمية خاصة للاهتمام الذي تلقاه من جانب القيادة السياسية، والذي يتجلى في اللقاءات التي يجريها جلالة الملك مع كل أطياف الشعب، والزيارات التي يقوم بها سمو ولي العهد رئيس الوزراء، وكذلك نواب رئيس الوزراء لهذه المجالس، وحرصهم على الالتقاء بأصحابها، وهو النهج الذي أرسى دعائمه سمو الأمير الراحل الشيخ «عيسى بن سلمان آل خليفة» -طيب الله ثراه- حيث كان يستقبل المواطنين في مجلسه الأسبوعي للاطمئنان على أحوالهم والتعرُّف على احتياجاتهم، ويتبادل معهم وجهات النظر في كل ما يتعلق بمصالح الوطن والمواطن.
وعلى نهج الآباء والأجداد، سار جلالة الملك «حمد بن عيسى»، إدراكا منه بأن هذه المجالس تعبّر عن نبض المجتمع البحريني، وتعكس قضاياه ومشكلاته وهمومه، حيث استقبل عشية اليوم الأول من الشهر الفضيل أعضاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد في البحرين، مؤكدا لهم أن المملكة تواصل نهجها ورسالتها السامية في نشر وترسيخ قيم ومبادئ الدين الإسلامي التي تقوم على التسامح والمحبة والسلام والعيش المشترك واحترام الآخر. وفي اليوم الثاني التقى رؤساء الهيئات القضائية، وأبدى تقديره لتحملهم المسؤولية في تحقيق العدالة، وتأمين حقوق المواطنين والمقيمين.
وكان لقاء اليوم الثالث مع رئيسي مجلسي النواب والشورى ونوابهما ورؤساء اللجان، وكانت مناسبة لإشادة جلالته بالنجاح الذي حققه المجلس الوطني بغرفتيه النواب والشورى، باستضافة أعمال الدورة الـ146 للجمعية العامة للاتحاد البرلماني الدولي خلال الفترة من 11-15 مارس الماضي، وأكد جلالته أهمية مواصلة تعزيز التعاون والتنسيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وخلال استقباله في اليوم الرابع وزير الداخلية وكبار الضباط، وقادة أجهزة قوة الدفاع ورئيس جهاز المخابرات والحرس الوطني، أكد تقديره لهذه الأجهزة وجهودها في حماية الوحدة الوطنية وتطبيق القانون، وحرص على التوجيه بضرورة التعاون بين قوة دفاع البحرين والأجهزة الأمنية. فيما تواصلت اللقاءات المباركة مع الوجهاء وأهالي المحافظات، وكانت رسالة جلالته هي خدمة الوطن ومصلحة المواطن والحرص على أمنه واستقراره.
وفي إطار هذا التوجه توالت زيارات سمو ولي العهد رئيس الوزراء كعادته كل عام للمجالس الرمضانية في كل محافظات البحرين، وفيها أثار سموه عديدا من الموضوعات المرتبطة بتحقيق التنمية في المملكة، وكل ما يصب في مصلحة الوطن وتطوير بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتى تاريخ كتابة هذه السطور كان سموه قد زار 20 مجلسا؛ منها «القائد العام لقوة دفاع البحرين» و«خليفة الظهراني» و«علي صالح الصالح»، و«غانم بن فضل البوعينين»، و«نبيل الحمر»، و«سمير ناس»، و«أحمد العالي»، و«عادل العالي»، و«عبد الله النعيمي»، ومجالس عائلات «كانو»، و«المسلم»، و«الجلاهمة»، و«العصفور»، و«الزياني»، و«فيصل جواد»، و«فاروق المؤيد»، و«علي بن يوسف فخرو»، و«الكوهجي»، و«كازروني» ومجالس «يوسف الحواج»، ومن المتوقع أن يصل عدد زياراته مع نهاية الشهر الفضيل إلى أكثر من 45 مجلسًا.
وكما «المجالس» في البحرين، تأتي «الديوانيات» في الكويت، فقد ذكر تقرير لـ«صحيفة الشرق الأوسط»، أنها تعد جزءا من التراث التقليدي الكويتي، ونظرًا إلى قوة تأثيرها في التركيبة الاجتماعية، فإن القانون الكويتي رقم 65 لسنة 1979، والقاضي بمنع تجمع الأفراد في الأماكن العامة من دون إذن، قد استثنى في المادة الثالثة منه الديوانية، باعتبارها عرفًا اجتماعيًا لازمًا ومتأصلاً في عادات الناس، وسمة الكويت وعلامتها الفارقة، رافقت أهلها في كثير من مراحل تطور دولتهم، ولعبت دورًا في حياتهم، وتعتبر جزءًا من النظام الاجتماعي، وتحتل مكانة خاصة في نفوس الكويتيين.
وعليه، فقد أعطى هذا الاستثناء للديوانية الكويتية دفعة سياسية واجتماعية قوية، فباتت متنفسًا لأفراد الشعب للاجتماع، وتجاذب أطراف الحديث، وهي كما وصفتها «صحيفة السياسة الكويتية»، من أبلغ الطرق وأقصرها للوصول إلى قلوب الناس، ومنتدى دوري سياسي وثقافي واجتماعي، يناقش فيه روادها آخر الأخبار والموضوعات والقضايا الوطنية بأنواعها المختلفة بحرية وشفافية، وتعرض فيها المطالب التي تخص المواطنين وتمس حياتهم اليومية، ويتم خلالها تقديم الحلول لكثير من الأمور والقضايا، علاوة على الوزن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الكبير للقائمين عليها، حيث يرتادها القاصي والداني، المتعلم والأمي، الكبير والصغير، ويطرح النقاشُ فيها بأسلوب مفهوم للجميع ومحبب إلى قلوبهم.
وفي الكويت عديد من الديوانيات التاريخية المشهورة، أذكر منها ديوانيات «الصقر»، و«الساير»، و«الشايع»، و«الخرافي»، و«البابطين»، و«عبداللطيف العثمان»، و«الغانم» وغيرها. ولأنني من الرواد الدائمين لديوانية «الصقر»، كلما زرت الكويت، أود الإشارة هنا إلى أن لهذه الديوانية تاريخا سياسيا عريقا في الديمقراطية، فقد جرت في ديوانية «عبدالله الصقر»، أول انتخابات كويتية في 29 يوليو 1938، بمشاركة 320 ناخبا، وأصبحت فيما بعد مقرا لاجتماعات أول مجلس تشريعي، ووضعت فيها الوثيقة الأولى للدستور المكونة من خمس مواد، والتي لاقت موافقة المرحوم الشيخ أحمد الجابر طيب الله ثراه.
ومنذ تلك الفترة الممتدة استمرت «ديوانية الصقر»، تمارس نشاطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فهي المدرسة التي تربى فيها الأخوان «عبدالعزيز»، و«جاسم» الصقر-رحمهما الله- وأصبح لهما تاريخ مشرف في الكويت، بل وفي الخليج أيضا، فقد كان لهما دور أساسي في توحيد مواقف الشعب الكويتي أثناء احتلال النظام العراقي للكويت. وبشكل كبير، مثّلت كلمة «عبدالعزيز الصقر»، في مؤتمر جدة عام 1990 الذي قاده مع 500 شخصية من وجهاء ورجالات الكويت، وصدر عنه وثيقة الطائف التي جددوا ولاءهم ومبايعتهم فيها لأسرة آل صباح، ردًا على ادعاءات النظام العراقي؛ «علامة مضيئة» في تاريخ الكويت، حيث ألقى في المؤتمر كلمة الشعب الكويتي أمام المرحوم الشيخ «جابر الأحمد الصباح»، أمير الكويت وجاء فيها: «نحن الجيل الذي بنى الكويت وأبناؤه، ونحن الذين استطعنا بفضل الله ثم بسواعدنا أن نجعل من الكويت منارة وحضارة، ونحن قادرون بإذن الله وبعزيمتنا أن نعيد للكويت الحرة مجدها وبهاءها»، وهو ما حدا بأمير الكويت الشيخ «جابر الأحمد»، أن يطلق عليه «مواطن الكويت الأول»، وهو اللقب الذي لم يحصل عليه غيره.
على العموم، تعد «المجالس»، و«الديوانيات»، سمة أساسية، وعادة متأصلة تضرب بجذورها في أعماق تاريخ كل من البحرين والكويت، باعتبارها «مكونا أصيلا»، من نسيجها الاجتماعي، وثقافة شعوبها؛ فهي منارات للتعلم، ومصدر للأخبار، وساحة للنقاشات في مختلف الموضوعات والقضايا؛ فضلا عما تمثله من «حالة فريدة»، من ممارسة الديمقراطية، التي تتجاوز الكثير من النماذج الغربية، يلتقي فيه المواطن مع قيادته بعيدًا عن الرسميات والقيود، في علاقة فلسفتها أن الجميع أسرة واحدة، ومحور اهتمامهم واحد، وهو النهوض بالبلاد، والحفاظ عليها، وعلى لحمة شعبها.
أختتم بالقول، كل عام والبحرين والكويت والخليج العربي وأمتنا العربية والإسلامية بخير وأمن وأمان وحفظ الله جلالة الملك وولي عهده الأمين رئيس الوزراء وشعب البحرين الوفي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك