وسط تزايد المنافسة العالمية بين «الولايات المتحدة»، وحلفائها من ناحية، و«الصين»، و«روسيا»، من ناحية أخرى -وكما كان الحال أثناء الحرب الباردة بين «أمريكا»، و«الاتحاد السوفيتي»- أضحى الخطاب السياسي والإعلامي الغربي يصف المشهد بمعركة بين الحكومات الديمقراطية والاستبدادية. ومع ذلك، فإن الخطوط الخاصة بهذين المعسكرين المتنافسين «غير واضحة تماما».
وفي تأكيد على هذا الواقع، عقد «جو بايدن»، في أواخر مارس 2023، القمة الثانية للديمقراطية، في مسعى لتشكيل جبهة موحدة ضد «الديكتاتورية»، في إشارة إلى حرب روسيا مع أوكرانيا وطموحات الصين لتوسيع نفوذها. ومع اختيار الحضور بانتقائية لإلقاء سلسلة من الخطابات والمناقشات والاجتماعات، رأي «إدوارد لوس»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، هذا الحدث «غريبًا ويفتقد الواقعية» للمشاركين والمتابعين على حدٍ سواء.
وبينما كتب «روبي جرامر»، و«جاك ديتش»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «البيت الأبيض»، يأمل أن تتمكن هذه القمة من «إحياء الزخم في الشبكة العالمية للحكومات الديمقراطية»، بعد سنوات من «التراجع»، مع اختيار مشاركين من كل قارة مثل؛ (هولندا، وكوريا الجنوبية، وكوستاريكا، وزامبيا)، بهدف نشر رسالة الوحدة العالمية ضد الاستبداد؛ فقد تم التشكيك في قدرتها على إحداث تغيير في هذا الشأن. ومع تأكيد صحيفة «نيويورك تايمز»، أن هذه النسخة مثل سابقتها عام 2021، تضمنت «لغة إيجابية على مستوى قادة العالم»، و«جلسات جماعية حول تعزيز سيادة القانون، وحرية وسائل الإعلام، وممارسات تعزيز المشاركة الديمقراطية؛ فمن المتوقع أن ينتج عن ذلك «تحسينات قليلة»، في المكانة العالمية للديمقراطية.
وكما هو الحال في مثل هذه التجمعات الدولية يتم التركيز على من تمت دعوته، ومن لم تتم دعوته. وفي عام 2023، كان هذا ديناميكيًا بشكل خاص، حيث اتهمت «الولايات المتحدة»، بازدواجية المعايير، وممارسة الانتقائية. ورأت «كاتي ستالارد»، في مجلة «ذا نيو ستيتمان»، أنه تمت دعوة العديد من المشاركين في القمة على الرغم من تورطهم «في عملية تفكيك ديمقراطياتهم». وفي طليعة هذا التناقض، حضور حكومة «بنيامين نتنياهو»، التي وُصفت تعديلاتها المقترحة للقضاء بأنها «مناهضة للديمقراطية»، كما أدى قمعها للفلسطينيين في الأراضي المحتلة إلى إدانة دولية كبيرة.
ومع ذلك، يبدو أن هذه العوامل لم تكن كافية لمنع زعيم تحالف يميني يضم قوميين متطرفين وعنصريين من أن يتجنب «البيت الأبيض» دعوته. وبالتالي، من غير المستغرب، من وجهة نظر «جوناثان ليمير»، و«نهال توسي»، في مجلة «بوليتيكو»، أن وجود «حليف بايدن المفضل في الشرق الأوسط»، كان سببا في «الإضرار بحزبه الديمقراطي».
وفي حين تم التشكيك في أهداف القمة، كان هناك اتفاق بين المحللين على ضرورة مواجهة التراجع الديمقراطي في العالم، ومواجهة الأنظمة الاستبدادية. وعلى الرغم من أن «مايكل كراولي»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أشار إلى أن «بايدن»، نجح في حشد الدول الديمقراطية «في تحالف قوي ضد روسيا»، عقب حربها مع أوكرانيا؛ فإن تصريحه قبل انعقادها بأن «الديمقراطيات أصبحت أقوى»، في حين أن «الأنظمة الاستبدادية أصبحت أضعف»؛ هو حديث تدحضه الاستطلاعات والبيانات.
وسجل «مؤشر الديمقراطية»، لوحدة الاستخبارات الاقتصادية لعام 2022، «ركودًا» في الديمقراطية العالمية وبروز الأنظمة الاستبدادية في آسيا وإفريقيا، في حين أوضح «معهد أنواع الديمقراطية»، أن ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان العالم الآن يعيشون في ظل حكومات ذات سمات استبدادية. واستشهد «توماس بيرييلو»، من «مكتب مؤسسات المجتمع المفتوح»، بحالة الانقسام في النظام العالمي «بين القادة الذين يقودون بلدانهم إلى اتجاه أكثر قمعًا وانغلاقًا واستبدادية، مقابل أولئك الذين يسعون لأن يكونوا أكثر انفتاحًا وشمولية».
ومع تحسن العلاقات الجيوسياسية بين «روسيا»، و«الصين»، ذكر «جراهام أليسون»، من «جامعة هارفارد»، أن هذا هو «التحالف غير المعلن الأكثر أهمية في العالم». ورأى «فريدريك كيمبي»، من «المجلس الأطلسي»، هذه الشراكة «علامة على تحول النظام العالمي»، حيث أصبحت المنافسة الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها الآن «حقيقة ملحة».
وعليه، أوضح «جرامر»، و«ديتش»، أن قمة الديمقراطية، التي تعد واحدة من «مبادرات السياسة الخارجية المميزة» لبايدن، تهدف إلى «دعم الديمقراطيات في جميع أنحاء العالم» من خلال تعزيز الوحدة والاصطفاف. وبينما وصف «لوس»، هذا الهدف بأنه «نبيل» في نواياه، فقد كان من بين العديد من المعلقين الذين حكموا على أن الأساليب المتبعة لتحقيقه «يكتنفها الشك».
ولعل أحد الأسباب الداعية لمثل هذا الشك، هو معايير «واشنطن» المزدوجة، فيما يتعلق بدول تُعد ديمقراطية بما يكفي لدعوتها إلى مثل هذه التجمعات، وتجنب دول أقل استحقاقًا. وعلى الرغم من إصدار «الخارجية الأمريكية»، مذكرة تشير إلى أن القمة يجب أن تكون «شاملة وممثلة لمجموعة متنوعة من البلدان إقليمياً واجتماعياً واقتصادياً»، ودعوة واشنطن لـ121 من قادة العالم؛ فقد كان هناك عدد من الغائبين البارزين.
ومع وجود أغلب المشاركين من دول «أوروبا»، أو «أمريكا الشمالية»، كان «العراق» الوحيد من بين الدول العربية في الشرق الأوسط، الذي تلقى دعوة. وأشار «شون تاندون»، من موقع «المونيتور»، إلى غياب السعودية ومصر، على الرغم من لقاء الرئيس الأمريكي مع قادتهما العام الماضي والزيارات العديدة للمسؤولين الأمريكيين لتعزيز مصالحهم الخارجية في الشرق الأوسط.
وبالإضافة إلى ذلك، لاحظ «جرامر»، و«ديتش»، أن حلفاء الولايات المتحدة في الناتو «تركيا»، و«المجر»، لم يلقوا ترحيبا، على الرغم من تعرض «أردوغان»، و«أوربان»، لضغوط متكررة «لدعم الاستراتيجية الغربية ضد روسيا مع احتدام الحرب الأوكرانية»، وكذلك الموافقة على انضمام «السويد»، و«فنلندا»، رسميًا إلى الناتو على الرغم من هواجسهما الخاصة.
وبالنظر إلى أن العديد من حلفاء وشركاء «واشنطن»، سيشعرون بالاستهانة جراء عدم حضورهم قمة ضمت دول العالم الكبرى؛ فقد انتقد المراقبون مشاركة الدول ذات السجلات السيئة ديمقراطيًا. وأشار «لوس» إلى أن رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي»، «في طريقه إلى سجن زعيم المعارضة «راهول غاندي»، بسبب اتهامه زورًا بالتشهير به، بالإضافة إلى أن «الرئيس المكسيكي «أندريس مانويل لوبيز أوبرادور»، يحاول القضاء على حرية ونزاهة الانتخابات عبر تعديل هيئتها وقوانينها». ومع ذلك، كان هناك وجود لرئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو»، الذي ألقى خطابًا أثنى فيه على «ديمقراطية بلاده القوية والمستقلة والجليلة»، وهو ما أثار غضب المراقبين، واتهامهم للبيت الأبيض باعتماد تناقضات صارخة بين أقوالها وأفعالها إزاء تعزيز الديمقراطية.
وعلى عكس ما ادعاه «نتنياهو»، أن حكومته تقود دولة «كانت وستظل دائمًا ديمقراطية قوية ونابضة بالحياة»؛ وصفت صحيفة «الجارديان»، خططه المستمرة للحد من الاستقلال السياسي للمحكمة العليا بـ«الاعتداء على المؤسسات الديمقراطية». وأشار «إيان لوستيك»، من «جامعة بنسلفانيا»، إلى أن احتمال وقوع «حرب أهلية» جراء «ما إذا كانت إسرائيل ستبقى ديمقراطية، أو ستصبح دكتاتورية من قبل القوميين المتطرفين «قد بات وشيكًا».
ومع إشارة «نتنياهو»، إلى أن بلاده تمثل «منارة للحرية والازدهار» في الشرق الأوسط؛ فإن هذه التصريحات تتعارض بشكل صارخ مع تصعيد حكومته لأعمال القمع ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والتي وصفتها «منظمة العفو الدولية»، بـ«نظام الفصل العنصري»، كما حثت «هيومن رايتس ووتش»، المجتمع الدولي على «اتخاذ إجراءات عاجلة» لمنع تلك الأعمال القمعية. وأوضحت «بيثان ماكيرنان»، بصحيفة «الجارديان»، أن ائتلافه السياسي الذي يضم عنصريين متطرفين أدى إلى زيادة «تلطيخ» سمعة إسرائيل الدولية، وخلق «توترات» في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة للإصلاحات السياسية المناهضة للديمقراطية التي يخطط لها «نتنياهو»، للنيل من حقوق الفلسطينيين، فقد أدان «ليمير»، و«توسي» دعوته للمشاركة في القمة. وفي محاولة لشرح سبب حدوث ذلك، أشارا إلى أن «بايدن»، «لطالما كان تقليديًا في تحديد ملامح العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل»، ولا يزال «قريبًا من المنظمات المؤيدة لإسرائيل» في واشنطن، رغم تزايد عدد المشرعين في حزبه ممن عبّروا عن انتقاد حكومة نتنياهو وآلية معاملتها للفلسطينيين.
ورغم أن «كراولي»، قد أوضح أن تراجع رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن الإصلاحات قبل حضور الحدث ربما خفف من «حرج مشاركة بلاده، فإنه يمكن الجزم بأن مجرد دعوته لقمة عُقدت بنية مواجهة الاستبداد المتزايد عالميًا، كشف عن نقص في وعي الإدارة الأمريكية بحجم تناقضاتها العديدة، فيما يتعلق بالتوقعات والمعايير الديمقراطية التي يستوجب فرضها على حلفائها، وتلك التي تتعلق بمنافسيها الجيوسياسيين».
وفي ضوء هذه الانتقادات، تساءل المعلقون عن النجاح المحتمل لتلك المبادرة الدبلوماسية لتحقيق هدفها المتمثل في تعزيز الديمقراطية العالمية. ورغم أن «بايدن»، أعلن خلالها عن إتاحة حزمة بقيمة 690 مليون دولار لتمويل البرامج المؤيدة للديمقراطية عالميًا؛ فقد حذر «لوس» من أوجه القصور التي تعمل بها إدارته لتوجيه تلك الحزمة لتعزيز الديمقراطية في بلدان الجنوب العالمي، مع العلم أن الصين قامت بالفعل «بضخ المزيد من الأموال في العالم النامي أكثر من كل دول الغرب مجتمعة»، وبالتالي منحها ذلك نفوذًا اقتصاديا وسياسيا أكبر في أجزاء من آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا.
علاوة على ذلك، فإن التصورات عن قيام «الولايات المتحدة»، بإدارة نادٍ مغلق للدول الديمقراطية، هي رؤية «متناقضة»، حيث تم التأكيد فيها على ضم إسرائيل لهذا النادي على الرغم من قيامها بإصلاحات مناهضة للديمقراطية، واتهامها بارتكاب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، فيما تعمل أيضًا على تقويض مهمة «واشنطن»، في بناء تحالف عالمي من الدول ذات الرؤى المعتدلة لمواجهة الاستبداد. وجذبت تصريحات المتحدث باسم «الخارجية الصينية» بأن مؤتمر القمة «يرسم خطًا أيديولوجيًا بين البلدان»، و«يخلق انقسامًا بين دول العالم»، متعاطفين من الدول غير المهتمة بالتوافق مع كل من واشنطن أو بكين، وبات واضحًا أنها ستفضل متابعة مصالحها الاستراتيجية في المقام الأول.
وفيما يتعلق بنجاحها في تعزيز المبادرات الديمقراطية عالميًا؛ أشير إلى أنه في حين تم تمثيل الدول الإفريقية بشكل أفضل عام 2022، مقارنة بالقمة السابقة لها عام 2021؛ أكدت «دانييل ريسنيك»، من «معهد بروكينجز»، أن «التراجع الديمقراطي لا يزال مصدر قلق»، حيث يعتبر 79% من أولئك الذين يعيشون في دول إفريقيا جنوب الصحراء، مقيمين في بلدان ذات «أنظمة مصنفة على أنها استبدادية انتخابية». وفي إشارة إلى أن «الثقة الحالية في نزاهة وقدرة اللجان الانتخابية تظل إشكالية بتلك الدول»، رأت أن توقعات الدول الإفريقية من القمة، ستكون «متواضعة»، وبدون أدنى «معالجة جوهرية»، للقضايا الأساسية مثل «المؤسسات الضعيفة، وقضايا الفساد، والانحياز الانتخابي». وتنعكس هذه العوامل في إفريقيا بالمثل على أجزاء كثيرة من آسيا والشرق الأوسط.
وبينما أوضح عضو الكونجرس السابق «توم مالينوفسكي»، بأنه يجب منح «بايدن»، الفضل في «المساعدة في إنقاذ الديمقراطية الأمريكية» من خلال هزيمة «ترامب»، في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والوقوف في وجه القوى الاستبدادية الكبرى؛ فقد أكد أن مبادرة القمة الرئيسية تلقي الضوء على التناقضات المتأصلة والمعايير المزدوجة التي استخدمتها «واشنطن»، في سياستها الخارجية لعقود عديدة.
على العموم، بغض النظر عن المضمون المعلن للقمة، وأنها «من أجل الديمقراطية»، فقد أثارت قائمة المدعوين وحدها قدرا كبيرا من انتقادات الخبراء، الذين أشاروا إلى استبعاد بعض حلفاء وشركاء الولايات المتحدة التاريخيين، في حين سُمح لدول متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والأعمال المناهضة للديمقراطية، وعلى الأخص إسرائيل، بالحضور بسبب تقارب علاقاتها مع «واشنطن»، وهو الأمر الذي يدل على ازدواجية المعايير، ويفرغ القمة من مضمونها ويضيع أهدافها، فيما ذهب المحللون إلى أبعد من ذلك مع إشارتهم إلى أنها من الممكن أن تزيد من تقسيم العالم إلى معسكرات متعارضة، وهو ما يؤجج نار المواجهة الأيديولوجية التي لن تجلب سوى المزيد من الاضطرابات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك