إنه لأمر مأساوي ومحزن للغاية حقا! فعلى الرغم من مرور عشرين عامًا بالتمام والكمال على الغزو العسكري الكارثي الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية على العراق في سنة 2003، فإنه لم يتم الاعتراف بما اكتنف تلك العملية من جهل وأكاذيب ودمار وفظائع إنسانية.
لقد ذهب آنذاك في اعتقاد المحافظين الجدد في إدارة جورج بوش أن أعداءنا قد نفذوا هجمات 11 سبتمبر 2001 واستهدفوا الولايات المتحدة الأمريكية لأنهم نظروا إلينا على أننا ضعفاء. لقد افترض المحافظون الجدد أيضا أن النصر السريع والحاسم سيتحقق منذ الأيام الأولى للغزو وأن ذلك سيظهر مدى قوة الولايات المتحدة الأمريكية وتصميمها. لقد اعتقدوا أيضا، بل توهموا أن الحرب ستضمن الهيمنة الأمريكية لعقود قادمة.
كنت قد خدمت في تلك الفترة ضمن فريق عمل برعاية مؤسسة فكرية مع عديد من المؤيدين البارزين لهذه النظرة العالمية، وقد أذهلتني غطرستهم الناجمة عن جهلهم المدقع بواقع الأمور. فهم لم يعرفوا أو يعتبروا أنه من المهم معرفة العراق والإلمام بحقيقة واقعه.
لقد استرشدوا بأيديولوجية مانوية ذات مقاس واحد يناسب الجميع: قوى الخير تقاتل قوى الشر في جميع أنحاء العالم كما أن الصدام بينهما لا مفر منه. وفي تلك المواجهة يسود الخير في النهاية. أما أولئك الذين نبهوا إلى خطورة الأمر وأطلقوا التحذيرات فقد تم الحط من شأنهم واعتبروا ضعفاء ويفتقرون إلى العزيمة.
لقد كثف هؤلاء «الخبراء» من حضورهم في المحطات الإذاعية والتلفزيونية وراحوا يخاطبون الرأي العام الذي كان لا يزال يعاني من الصدمة ولا يعرف كثيرا عن العراق أو الشرق الأوسط الكبير. في الشهادات التي قدمت أمام الكونجرس وعلى شاشات التلفزيون، قام أنصار الحرب بتلميع صورهم تحت شعار «الخير مقابل الشر» كما تعمدوا تضليل الكونجرس والرأي العام عن الحرب الوشيكة.
في الحقيقة لم تكن «الكذبة الكبرى» التي روج لها المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش بشأن العراق تتعلق بأسلحة الدمار الشامل، بل كانت الكذبة الكبرى تتعلق بالكذب وخداع الرأي العام الأمريكي حول تكاليف الحرب وشروط الاشتباك.
لقد زعم متحدثون باسم الإدارة الأمريكية في شهاداتهم أن الحرب ستنتهي في غضون أسابيع قليلة، كما زعموا أن القوات الأمريكية ستلقى كل الترحيب كقوات محررة وأن الحرب لن تكلف أكثر من 1 إلى 2 مليار دولار وأن الديمقراطية الجديدة ستسود في النهاية العراق، الذي سيتحول إلى «منارة للشرق الأوسط الجديد».
ردد الصحفيون والمعلقون تلك الادعاءات الخالية من الحقائق مما جعلها السرد المهيمن، فيما خانت الجرأة والشجاعة معظم السياسيين. ولأن الغالبية العظمى من الجمهور لم يتمكنوا من العثور على العراق على الخريطة (وفقًا لمسح أجري قبل أيام من بدء الغزو)، فقد انجروا وراء تلك الأكاذيب المضللة.
خلال الأشهر التي سبقت اندلاع الحرب في العراق، كنت أنا وزوجتي في ولاية نورث كارولينا حيث كنت أدرس في كلية ديفيدسون. وفي وقت ما، عدت إلى العاصمة واشنطن لمناقشة قرار قدمته إلى اللجنة الوطنية الديمقراطية لحث الحزب على معارضة إرسال شبابنا إلى حرب من دون معرفة تكاليفها وشروط المشاركة والعواقب الوخيمة التي قد تنجم عنها في بلد تاريخ وثقافة لم نكن نعرفها. سمح لي قادة الحزب بتقديم ذلك القرار لكنهم لم يسمحوا بالتصويت عليه.
في ذلك الوقت، كنت أستضيف برنامج اتصال تلفزيونيا مباشرا أسبوعيًا على تلفزيون أبو ظبي و Direct TV في الولايات المتحدة الأمريكية. بثت محطة تلفزيون أبو ظبي برنامجين مباشرين عبر الأقمار الصناعية يربطان الطلاب في جامعة ديفيدسون بطلاب جامعة بغداد، وهو ما فتح عيون طلابي على التاريخ العراقي والثقافة ومختلف الحساسيات والخصوصيات. بعد انتهاء البرنامج أخبرني أحد طلاب جامعة ديفيدسون أنه كان من الصعب التحدث مع العراقيين وهم يعلمون أننا سنقوم بقصفهم.
بعد عقدين من الزمان، نسينا تلك الأكاذيب والترهات إلى حد كبير، ولم تتم محاسبة أحد عما حدث في تلك الحرب وعن تلك الفظاعات.
أصدر الرئيس باراك أوباما قرارا بنشر المذكرات والتقارير عن التعذيب في عهد سلفه جورج بوش، والتي كانت ترمي إلى إيجاد مبرر «قانوني» وتعريف الأساليب المسموح بها التي يمكن استخدامها لتعذيب السجناء المحتجزين في أفغانستان والعراق، ما أثار الآمال في المساءلة عن جرائم الحرب. كانت المذكرات مفصلة بشكل مرعب في وصف ممارسات التعذيب المسموح بها. ولكن بعد إصدار المذكرات، أعلن أوباما «أننا لن ننظر إلى الوراء».
وها نحن هنا، بعد عقدين من الحرب من دون مساءلة عن الأكاذيب التي خلفت آلاف القتلى من الشباب الأمريكي ومئات الآلاف من العراقيين، وها هم نفس صقور المحافظين الجدد، الذين لا يزالون يُعتبرون «خبراء»، يظهرون حتى اليوم الآن على موجات الأثير وهم يروجون هراءهم المانوي عن صراعات وأعداء آخرين.
في هذه الأثناء يظل الرأي العام الأمريكي غير مطّلع ليس فقط على العراق، وما فعلناه هناك، ولكن أيضًا عن الشرق الأوسط بأكمله بتاريخه وثقافته.
نواصل العمل بشكل أعمى في عالم يتزايد قلقه بشأن دورنا على وجه التحديد بسبب الافتقار إلى المساءلة وفهم التاريخ. الحقيقة هي أن المساءلة لن تجعلنا أضعف، بقدر ما ستجعلنا أذكياء وأقوى وأكثر احترامًا ومكانة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك