العدد : ١٧٠٥٧ - الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٧ - الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أخاف من الظلام والظلم

شاركت‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬في‭ ‬استفتاء‭ ‬نظمته‭ ‬صحيفة‭ ‬تايمز‭ ‬اللندنية‭ ‬حول‭ ‬أهم‭ ‬المخترعات‭ ‬والاكتشافات‭ ‬العلمية‭ ‬البريطانية،‭ ‬وكانت‭ ‬الصحيفة‭ ‬قد‭ ‬حصرت‭ ‬المنافسة‭ ‬بين‭ ‬اكتشاف‭ ‬لقاح‭ ‬الجدري‭ ‬واختراع‭ ‬أول‭ ‬كمبيوتر،‭ ‬ودراجة‭ ‬روفر‭ ‬الشعبية،‭ ‬واكتشافات‭ ‬مايكل‭ ‬فاراداي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬توليد‭ ‬الكهرباء،‭ ‬ثم‭ ‬المصباح‭ ‬الكهربائي‭ ‬الذي‭ ‬طوره‭ ‬العالم‭ ‬الكيميائي‭ ‬البريطاني‭ ‬جويف‭ ‬سوان‭ (‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬نجح‭ ‬الأمريكان‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬العالم‭ ‬بأن‭ ‬توماس‭ ‬أديسون‭ ‬هو‭ ‬مخترع‭ ‬المصباح‭ ‬الكهربائي‭).‬

بداهة‭ ‬فقد‭ ‬منحت‭ ‬صوتي‭ ‬للمصباح‭ ‬الكهربائي،‭ ‬لأنني‭ ‬أكره‭ ‬الظلام‭ ‬بمعناه‭ ‬الحرفي‭ ‬والمجازي،‭ ‬وأحب‭ ‬التنوير‭ ‬بمعناه‭ ‬الحرفي‭ ‬والمجازي‭. ‬ففي‭ ‬طفولتي‭ ‬وصباي‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬كان‭ ‬الظلام‭ ‬سميكا‭ ‬وكثيفا،‭ ‬وذا‭ ‬شخصية‭ ‬اعتبارية‭ ‬بحيث‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬إمكانك‭ ‬أن‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬خلاء‭ ‬وظهرك‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الظلام‮»‬‭. ‬ولهذا‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬عبقري‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬التجاني‭ ‬يوسف‭ ‬البشير‭: ‬للّيلِ‭ ‬عمقٌ‭ ‬وفي‭ ‬الدجى‭ ‬نفقٌ‭/ ‬لو‭ ‬صُبَّ‭ ‬فيه‭ ‬الزمان‭ ‬لابتلعه،‭ ‬وأجد‭ ‬هذا‭ ‬أقوى‭ ‬ديباجة‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭: ‬وليل‭ ‬كموج‭ ‬البحر‭ ‬أرخى‭ ‬سدوله‭/ ‬عليَّ‭ ‬بأنواع‭ ‬الهموم‭ ‬ليبتلي‭.‬

وفي‭ ‬بلدتنا‭ ‬تلك‭ ‬حتى‭ ‬مصباح‭ ‬الجاز‭ ‬الأبيض‭ ‬أو‭ ‬الكيروسين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يضاء‭ ‬باستمرار‭ ‬ترشيداً‭ ‬للإنفاق،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬ضوءه‭ ‬يجذب‭ ‬العقارب،‭ ‬وكانت‭ ‬أمهاتنا‭ ‬وجداتنا‭ ‬يفاقمن‭ ‬خوفنا‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬بحكاياتهن‭ ‬المرعبة‭ ‬عن‭ ‬الغول‭ ‬والجن،‭ ‬بينما‭ ‬أطفال‭ ‬الخواجات‭ ‬ينامون‭ ‬وهم‭ ‬يسمعون‭ ‬قصص‭ ‬سندريلا،‭ ‬وسنو‭ ‬وايت‭ ‬والأقزام‭ ‬السبعة،‭ ‬مقرونة‭ ‬بأغنيات‭ ‬خفيفة‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬النوم‭ ‬الهادئ‭.‬

وكان‭ ‬هناك‭ ‬ظلام‭ ‬الأمية‭ ‬والجهل‭ ‬والخرافات‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتحالف‭ ‬مع‭ ‬ظلام‭ ‬الليل‭ ‬ليجعل‭ ‬نهارنا‭ ‬ليلاً‭ ‬شديد‭ ‬الحلكة،‭ ‬وكنا‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬نلعب‭ ‬في‭ ‬تلال‭ ‬رملية‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬بيوتنا،‭ ‬وكلما‭ ‬لمحنا‭ ‬وميض‭ ‬ضوء‭ ‬بعيد‭ ‬هربنا‭ ‬إلى‭ ‬بيوتنا‭ ‬لأننا‭ ‬كنا‭ ‬نحسب‭ ‬أن‭ ‬الجن‭ ‬يحاولون‭ ‬استدراجنا‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬الضوء،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الاستنتاج‭ ‬منطقياً‭ ‬لأن‭ ‬مصابيح‭ ‬الجاز‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬أمام‭ ‬أرق‭ ‬نسمة‭ ‬هواء،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ضوء‭ ‬أقوى‭ ‬مصباح‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬قهر‭ ‬الظلام‭ ‬لأبعد‭ ‬من‭ ‬مترين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وارداً‭ ‬أن‭ ‬واحداً‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الإنس‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬مصباحاً‭ ‬يرسل‭ ‬وميضاً‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬بُعد‭. ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الشوارع‭ ‬مضاءة‭ ‬وتستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقهر‭ ‬الظلام‭ ‬بضغطة‭ ‬على‭ ‬زر‭ ‬صغير‭.‬

وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أنام‭ ‬إلا‭ ‬وبعض‭ ‬الضوء‭ ‬يتسلل‭ ‬إلى‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬أنام‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬قريب،‭ ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬بداخلي‭ ‬خوف‭ ‬طفولي‭ ‬من‭ ‬الظلام،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬أقود‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬ليست‭ ‬به‭ ‬إضاءة،‭ ‬أحس‭ ‬بضيق‭ ‬شديد‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬كشافات‭ ‬السيارة‭ ‬تعينني‭ ‬على‭ ‬استكشاف‭ ‬الطريق،‭ ‬وحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الظلام‭ ‬ارتبط‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭ ‬بالخوف‭ ‬من‭ ‬المجهول،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تقدر‭ ‬حجم‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬يعشش‭ ‬داخل‭ ‬آدمي‭ ‬عاش‭ ‬معظم‭ ‬سنوات‭ ‬حياته‭ ‬مظلوما،‭ ‬والظلم‭ ‬صنو‭ ‬الظلام،‭ ‬ومعظم‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬أصابني‭ ‬كان‭ ‬مصدره‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مناطاً‭ ‬بها‭ ‬توفير‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭ ‬لي‭ ‬ولغيري،‭ ‬وتحديدا‭ ‬حكومات‭ ‬بلدي،‭ ‬فقد‭ ‬كتبت‭ ‬مقالات‭ ‬عبر‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬صحف‭ ‬البحرين‭ ‬والسعودية‭ ‬وقطر‭ ‬والكويت‭ ‬والصحف‭ ‬المهاجرة‭ (‬اللندنية‭)‬،‭ ‬والسودان،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬تتعرض‭ ‬مقالاتي‭ ‬للمنع‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬بل‭ ‬منعت‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬السودان‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الـ14‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬ورهطه‭ ‬طلبا‭ ‬للسلامة‭.‬

باختصار،‭ ‬صار‭ ‬الظلام‭ ‬يعني‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي‭ ‬الأجهزة‭ ‬السرية‭ ‬مثل‭ ‬المباحث‭ ‬والمخابرات‭.. ‬هي‭ ‬بالطبع‭ ‬تؤدي‭ ‬المهام‭ ‬الموكلة‭ ‬إليها‭ ‬بتصيد‭ ‬ومراقبة‭ ‬وكمش‭ ‬ومطارة‭ ‬ومضايقة‭ ‬المشاغبين‭ ‬والمخربين،‭ ‬وأعترف‭ ‬بأنني‭ ‬كنت‭ ‬ومازلت‭ ‬مشاغباً‭ ‬من‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬فقد‭ ‬ابتلى‭ ‬الله‭ ‬السودان‭ ‬بحكومات‭ ‬منتخبة‭ ‬وديكتاتوريات‭ ‬عسكرية‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬‮«‬أنيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولم‭ ‬أحس‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬بأن‭ ‬أياً‭ ‬منها‭ ‬تمثلني‭ ‬أو‭ ‬معنية‭ ‬بأمري‭ ‬وأمور‭ ‬غيري‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭. ‬وهكذا‭ ‬نشأت‭ ‬معارضاً‭ ‬‮«‬محترفاً‮»‬‭. ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قط‭ ‬معارضاً‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬الثقيل‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬لي‭ ‬ملفات‭ ‬محترمة‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬أمني،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬يأتوني‭ ‬بعد‭ ‬هبوط‭ ‬الظلام‭ ‬ويضعوني‭ ‬في‭ ‬زنزانة‭ ‬ليست‭ ‬بها‭ ‬إضاءة‭. ‬ولكن‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬مدركاً‭ ‬وأنا‭ ‬أسير‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬مدن‭ ‬حسنة‭ ‬الإضاءة،‭ ‬أنها‭ -‬أي‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭- ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬الظلام‭.. ‬المعنوي،‭ ‬وهو‭ ‬أشد‭ ‬قسوة‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬انعدام‭ ‬الضوء‭ ‬الطبيعي‭ ‬أو‭ ‬الاصطناعي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا