العدد : ١٧٠٥٧ - الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٧ - الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

استعلاء باستعلاء

عندما‭ ‬وصلت‭ ‬قبل‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬الى‭ ‬غلاسغو‭ ‬ثانية‭ ‬أكبر‭ ‬المدن‭ ‬الاسكتلندية،‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬سيدي‭ ‬مثل‭ ‬ستي،‭ ‬يعني‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬ملامحها‭ ‬العامة‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬مدن‭ ‬بريطانيا،‭ ‬نفس‭ ‬المباني‭ ‬التي‭ ‬يفوح‭ ‬منها‭ ‬عبق‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولكن‭ ‬غلاسغو‭ ‬قد‭ ‬‮«‬تتفوق‮»‬‭ ‬على‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬تحتضن‭ ‬عدداً‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الحانات،‭ ‬فبين‭ ‬كل‭ ‬عشرة‭ ‬متاجر‭ ‬تجد‭ ‬ثلاث‭ ‬خمارات،‭ ‬والاسكتلنديون‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬ينتج‭ ‬الخندريس‭ ‬المسمى‭ ‬‮«‬ويسكي‮»‬،‭ ‬ووجبات‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬اسكتلندا‭ ‬‮«‬سائلة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أنهم‭ ‬يشربون‭ ‬كميات‭ ‬مهولة‭ ‬من‭ ‬البيرة‭ ‬يملأون‭  ‬بها‭ ‬بطونهم،‭ ‬ولا‭ ‬يتناولون‭ ‬معها‭ ‬طعاما‭ ‬صلبا،‭ ‬ومعروف‭ ‬أيضا‭ ‬أنهم‭ ‬يقبلون‭ ‬على‭ ‬المخدرات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬البريطانيين‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬المخدرات‭ ‬أكثر‭ ‬تفشياً‭ ‬في‭ ‬بلدهم‭.‬

وكان‭ ‬لدينا‭ ‬أصدقاء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬كفونا‭ ‬مشقة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الفنادق،‭ ‬واستأجروا‭ ‬لنا‭ ‬بيتاً‭ ‬فاخراً‭ (‬بالمقاييس‭ ‬المحلية‭)‬،‭ ‬صاحبه‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬آسيوي،‭ ‬وظل‭ ‬الرجل‭ ‬يطوف‭ ‬معنا‭ ‬أرجاء‭ ‬البيت‭ ‬وهو‭ ‬يشرح‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬نستخدم‭ ‬المفاتيح‭ ‬الكهربائية‭ ‬وصنابير‭ ‬المياه،‭ ‬وكيف‭ ‬نغلق‭ ‬الأبواب‭ ‬ونفتحها‭: ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬اسمه‭ ‬فرن‭ ‬المايكروويف‭ ‬ويستخدم‭ ‬للطبخ‭ ‬وتسخين‭ ‬الطعام‭ ‬بالضغط‭ ‬على‭ ‬الأزرار‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭ ‬و‭..  ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬هو‭ ‬الكوكر،‭ ‬ويستخدم‭ ‬للطبخ‭ ‬أيضاً‭ ‬ويتم‭ ‬فتح‭ ‬الغاز‭ ‬بتدوير‭ ‬هذه‭ ‬المفاتيح‭ ‬الى‭ ‬اليسار،‭ ‬ثم‭ ‬تشعل‭ ‬الكبريت‭ ‬وتضع‭ ‬الشعلة‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬عين‭ ‬الغاز‭ ‬لتشعل‭ ‬النار،‭ ‬وهذا‭ ‬الصندوق‭ ‬المحشور‭ ‬بين‭ ‬الخزانات‭ ‬هو‭ ‬جهاز‭ ‬غسل‭ ‬الملابس‭: ‬تضع‭ ‬الملابس‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬الفتحة‭ ‬ثم‭ ‬تصب‭ ‬مسحوق‭ ‬الصابون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجرى‭ ‬ثم‭ ‬تدير‭ ‬المفتاح‭ ‬ذاك،‭ ‬وتعود‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬أربعين‭ ‬دقيقة‭ ‬لتجد‭ ‬الملابس‭ ‬نظيفة‭.‬

وهنا‭ ‬فاض‭ ‬بي‭ ‬الكيل‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬لماذا‭ ‬اشتريت‭ ‬هذا‭ ‬الكوكر‭ ‬البدائي‭ ‬وفي‭ ‬السوق‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬أنواع‭ ‬منه‭ ‬بها‭ ‬نظام‭ ‬اشعال‭ ‬الكتروني‭ ‬أو‭ ‬كهربائي،‭ ‬ولماذا‭ ‬لم‭ ‬تشتر‭ ‬غسالة‭ ‬ملابس‭ ‬بها‭ ‬خاصية‭ ‬التجفيف؟‭ ‬ولعلمك‭ ‬يا‭ ‬باشا‭ ‬فإن‭ ‬بيتك‭ ‬كله‭ ‬بحديقته‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ (‬مجلس‭ ‬الرجال‭) ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين،‭ ‬وعندما‭ ‬دخلت‭ ‬الكهرباء‭ ‬السودان‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قومك‭ ‬في‭ ‬بلدك‭ ‬الأم‭ ‬قد‭ ‬اكتشفوا‭ ‬الملابس،‭ ‬ولعلمك‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يفرش‭ ‬الموكيت‭ ‬في‭ ‬الحمام‭ ‬إلا‭ ‬شخص‭ ‬متخلف‭ ‬لأن‭ ‬الموكيت‭ ‬يختزن‭ ‬المياه‭ ‬السائلة‭ ‬من‭ ‬الدوش‭ ‬والروائح‭ ‬الكريهة،‭ ‬والعالم‭ ‬يتجه‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الموكيت‭ ‬نهائياً‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬النوم‭.‬

وبالمناسبة‭ ‬فإنني‭ ‬أملك‭ ‬بيتاً‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يعتبر‭ ‬بيتك‭ ‬مقارنة‭ ‬به‭ ‬مجرد‭ ‬مخزن‭ ‬للمهملات،‭ (‬ربما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬بعض‭ ‬الكذب‭ ‬والمبالغة‭)‬،‭ ‬هنا‭ ‬بدأ‭ ‬الرجل‭ ‬يعتذر‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقصد‭ ‬أن‭ ‬يعاملنا‭ ‬كقوم‭ ‬يجهلون‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أبسط‭ ‬أدوات‭ ‬العصر‭..  ‬فطلبت‭ ‬منه‭ ‬بكل‭ ‬أدب‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬البيت‭ ‬لأننا‭ ‬لا‭ ‬نود‭ ‬رؤية‭ ‬وجهه‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬نقوم‭ ‬بتسليمه‭ ‬المفاتيح‭ ‬يوم‭ ‬نغادر‭ ‬نحن‭ ‬البيت‭ ‬نهائياً،‭ ‬خاصة‭ ‬وأننا‭ ‬سلمناه‭ ‬الأجرة‭ ‬مقدما‭.‬

وقبلها‭ ‬بسنة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬شبه‭ ‬محترم‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عندما‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬حوض‭ ‬الغسيل‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬بتصريف‭ ‬المياه‭ ‬فاتصلت‭ ‬بقسم‭ ‬الخدمات‭ ‬فأرسلوا‭ ‬سباكاً‭ ‬قام‭ ‬باستخدام‭ ‬الكباس‭ ‬لفتح‭ ‬الحوض‭ ‬ثم‭ ‬خاطبني‭ ‬قائلاً‭: ‬لا‭ ‬ترموا‭ ‬الأجسام‭ ‬الصلبة‭ ‬والورق‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬الغسيل‭ ‬لأنها‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬انسداده‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬شوف‭ ‬بالله؟‭ ‬حسبنا‭ ‬الحوض‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬دورة‭ ‬المياه،‭ ‬ولما‭ ‬انتبهنا‭ ‬لكونه‭ ‬شديد‭ ‬الارتفاع‭ ‬‮«‬راجعنا‮»‬‭ ‬أنفسنا‭ ‬وقلنا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬سلة‭ ‬القمامة‭ ‬وكنا‭ ‬نصب‭ ‬فيه‭ ‬فضلات‭ ‬الطعام‭ ‬والنفايات،‭ ‬ولاحظت‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬محتار‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬جادا،‭ ‬أو‭ ‬مستخفا‭ ‬به،‭ ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬أوضح‭ ‬له‭ ‬الأمر‭ ‬وقلت‭: ‬يا‭ ‬حمار‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬قراد‭ ‬الكلب‭ ‬نحن‭ ‬دخلنا‭ ‬الغرفة‭ ‬قبل‭ ‬عشرة‭ ‬دقائق،‭ ‬ثم‭ ‬تعال‭ ‬شوف‭ ‬بيوتنا‭ ‬لتكتشف‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬كلب‭ ‬حراسة‭ ‬فيها‭.‬

مثل‭ ‬هذا‭ ‬التصرف‭ ‬وهذه‭ ‬الأقوال‭ ‬من‭ ‬خصالي‭ ‬‮«‬الجميلة‮»‬‭: ‬لا‭ ‬أترك‭ ‬لخواجة‭ ‬فرصة‭ ‬ممارسة‭ ‬الاستعلاء‭ ‬عليّ،‭ ‬لأنني‭ ‬تخلصت‭ ‬من‭ ‬عقدة‭ ‬النقص‭ ‬تجاه‭ ‬الجنس‭ ‬الأبيض‭ ‬بكثرة‭ ‬الاحتكاك‭ ‬به‭ ‬واكتشافي‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬الشعوب‭ ‬غير‭ ‬البيضاء،‭ ‬ويعتبرونهم‭ ‬بدائيين‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬لهم‭ ‬بالعصر‭ ‬الحديث،‭ ‬الذي‭ ‬يفترضون‭ ‬أنهم‭ ‬سادته‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا