من بين المناسبات أو الأحداث البارزة في السيرة النبوية والتي يجب أن نقف عندها: حدث أو معجزة الإسراء والمعراج.
فما هو الإسراء والمعراج؟
فالإسراء يقصد به تلك الرحلة الليلية التي خص الله بها نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- والتي بدأت من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
ويُقصد بالمعراج ما وقع عَقِبَ الإسراء من عروج وارتقاء في طباق السماوات حتى الوصول إلى مستوى تنقطعُ دونَه علوم الخلائق، ولا يعرف حقيقته وكنهه أحد إلا الله.
ولقد أشار ربنا - سبحانه - إلى هذه المعجزة في سورتين مختلفتين، قال ربنا في أول سورة الإسراء: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا» (الإسراء: 1).
وكذلك في سورة النجم قال سبحانه: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى - مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» (النجم: 13 - 18)، وفي ذلك إشارة إلى المعراج.
وهذه المعجزة إذا أردنا أن نفهم، وإذا أردنا أن نقف على معانيها العظيمة ودلالاتها المعبرة، لا بد أن نقف مع رحلة الطائف.
فرحلة الطائف التي سبقت حادثةَ الإسراء والمعراج هي رحلة مليئة بالعِبَر والعظات والدروس، هي رحلة عظيمة في معانيها ودلالاتها، رحلة تُعلم المسلم في كل زمان ومكان الصبرَ والثبات على المبدأ والعقيدة، وتلقِّنه كيف يتربى على تحمل المصائب والشدائد في سبيل نصرة دين الله.
فبعد سنوات من المعاناة والألم والحصار الذي مارسته قوى الشر والباطل والاستكبار، المتمثلة في أكابر القوم من قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه من المؤمنين، فكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمرة الأولى منذ البعثة أن يَخرج بدعوته خارج مكة، علَّه يجد إقبالا على رسالة الإسلام، فاختار الخروج إلى الطائف، التي كانت تمثل مركزا ومكانا استراتيجيا لسادات قريش وأهلها، وهذا ما يسمى: بفقه المرحلة.
انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - انطلق صلوات ربي وسلامه عليه إلى الطائف على قدميه فوق رمال ملتهبة وتحت شمس محرقة، يبحث عن أرض خصبة تقبل بذرة التوحيد وتحمل مشعل الرسالة.
فهو - والله - لا يريد من وراء دعوته أو الرسالة التي يحمل همها، لا يريد مالا ولا وجاهة، ولا شهرة، ولا منصبا زائلا، وإنما يريد أن ينتشل من أراد من أوحال الكفر والشرك إلى أنوار التوحيد والإيمان، يريد أن يُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلمات الجهل إلى نور الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
لكن أهل الطائف في ذلك الوقت وقبل انتصار دعوة الإسلام تخلوا عن أبسط مظاهر الخُلق العربي، وهو إكرام الضيف الغريب، فكانوا أشد خِسَّةً مما توقعه النبي - عليه الصلاة والسلام - فلم ير منهم من يستجيب لدعوته ولا من ينصره، لم يجد منهم إلا الصد والإعراض والتكذيب، بل بلغ بهم الحال أن سلطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم فرموه بالحجارة حتى جُرحت قدماه وسال دمه الشريف.
فتعالوا بنا لنعش مع موقف وردِّ الرسول- صلى الله عليه وسلم -؛ جاء في صحيح مسلم أن عائشة -رضى الله عنها - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: يا محمد إن الله - جل وعلا - قد سمع قولَ قومِك لك وما رَدُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملَك الجبال، فسلمَ عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قولَ قومِك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربُّك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخْشبَيْن».
فوالله - معشر العباد - لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن ينتقم لذاته، أو لمكانته، أو ينتقم لِقَطرات دمٍ نزفت منه؛ لأمَر ملَك الجبال أن يُهلك قوما استكبروا وتحجرت قلوبهم.
لأمَر ملَك الجبال أن يُدمر كل شيء وألا يُبقِي على أرض الطائف من الكافرين دَيارا.
ولكنه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، نهر الرحمة، وينبوع الحنان، قلبه ينبض بالرحمة والحب والخير لكل الناس، فهو كما وصفه ربه -جل وعلا-وصفا ما اتصف به ملك مقرب ولا نبي مرسل: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم: 4).
فهو صلى الله عليه وسلم ما خرج إلى أهل الطائف إلاَّ وهو يعلم يقينا أن أصلابهم تحمل ربيعا قادما، تحمل أملا سيشرِق كالفجر، وسيتحرَك كالنَّسيم، ولذا لم يطلب من الله أن ينتقم منهم، بل قال صلى الله عليه وسلم: «أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه، لا يشركُ به شيئًا».
ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، وقبل أن يدخلها استوقفه زيد بن حارثة وقال له: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟! زيد يخشى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قريش من أن تُلحق به أذى أو تقتله.
لكن النبي الكريم يجيب زيدا بكل ثقة ويقين: «يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبِيه».
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم بأن بعد العسر يسرا، وأن كلَّ محنة وراءها منحة، وكلَّ شدة وراءها عطاء وتكريم من الله.
وقد كان ما توقعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبَعد تلك الشدائد والمحن، جاءت رحلة التكريم ورحلةُ الإعجاز الإلهي العظيم، لتثبيت قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكي يزداد إيمانا ويقينا بما يدعو إليه من رسالة ربه.
وهذا درس عظيم لكل مسلم يتعرض لشدة أو تصيبه محنة أو كرب، فإذا صبر وتحمل، فيقينا أن الله سيكرمه بالعطاءات والمنح الجليلة.
داعية وخطيب إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك