برزت في سنوات ما بعد الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، والانقسام السياسي الفلسطيني في صيف سنة 2007، موجة من الدراسات والتحليلات والمطبوعات التي تبحث في المشروع الوطني الفلسطيني وأزمته. كما عُقدت سلسلة من الندوات والمؤتمرات التي ناقشت جوانب مرتبطة بأزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وأزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وأزمة النظام السياسي الفلسطيني، كون هذه الحلقات متداخلة في كثير من المفاصل التي يصعب الفصل بينها أحياناً.
لكن أغلبية التشخيصات لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني والمقترحات للخروج منها أو من هذا المأزق، مثلما يصفها البعض، لم تثمر في استنهاض حراك وطني فلسطيني جامع على المستوى الفكري والسياسي.
لقد اعتمد بعض الدراسات منهجيات متنوعة سواء في المداخل المفاهيمية والنظرية، أو في أدوات المنهج البحثي، منها ما صدر عن مؤسسات علمية بحثية وجامعة مرموقة، أو في مجلات متخصصة بالقضية الفلسطينية. وأغلبية الكتّاب والباحثين الذين خاضوا غمار البحث هم من المتخصصين بمجالاتهم، ولديهم منجزات بحثية تُدرّس في الجامعات، وتُستخدم كمراجع علمية بشأن فلسطين وقضيتها.
ويُعتبر كتاب الكاتب والباحث الفلسطيني ماهر الشريف الذي نناقشه في هذه القراءة، وهو كتاب: «المشروع الوطني الفلسطيني: تطوره ومأزقه ومصائره»، الصادر حديثا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، ضمن هذه الكوكبة من الكتابات التي تبحث في سؤال الماضي والحاضر والمستقبل فلسطينياً.
تُعدّ كتب ماهر الشريف من المراجع الأكاديمية المهمة في الجامعات الفلسطينية، ولا سيما أنه أنجز سلسلة من الكتب المتخصصة بالفكر الفلسطيني، وهو كتاب قريب جداً في طرحه وأفكاره من كتابه «البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني، 1908 - 1993».
يستنتج الشريف في هذا الكتاب أن الحركة الوطنية الفلسطينية عجزت عن تحقيق الأهداف التي وضعتها لنفسها، وذلك لأسباب موضوعية مرتبطة باختلال ميزان القوى لمصلحة الحركة الصهيونية، وأسباب ذاتية مرتبطة ببُنية الحركة الفلسطينية واستراتيجياتها ووسائلها التي اعتمدت عليها.
ويسجل الشريف أن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في إبان الانتداب البريطاني، لم تبلور مشروعاً وطنياً، وكان رهانها هو على تغيير موقف الحكومة البريطانية من إقامة وطن قومي لليهود، علماً بأن وعي الحركة كان ضعيفاً بما يتعلق بالكيانية الفلسطينية. وبعد النكبة لم تتمكن الهيئة العربية العليا بزعامة الحاج أمين الحسيني من بعث كياني فلسطيني، لأن إعلان حكومة عموم فلسطين في سنة 1948 كان محكوماً بالفشل، لأن الأراضي الفلسطينية كانت خارج أي سيطرة فلسطينية.
يرى الشريف أن المشروع الوطني الفلسطيني أصبح واضح المعالم مع ولادة حركة «فتح» في النصف الثاني من الخمسينيات، وهي أول حركة وطنية تتشكل بعد النكبة، وقد حملت مشروعاً يقوم على تحرير فلسطين وعودة اللاجئين إلى وطنهم وديارهم، ولاحقاً طَرحت فكرة فرض السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويعرض الشريف تحولات المشروع الوطني الفلسطيني، أو مراحل تحول الفكر السياسي الفلسطيني بعد الخروج من الأردن عقب أحداث «أيلول الأسود»، والتحول لاحقاً إلى فكرة المرحلية في سنتي 1973 و1974، والمساعي الفلسطينية لدخول المسرح الدولي والمشاركة في مؤتمر السلام، ثم بلوغ التحول المفصلي المتمثل في الخروج من بيروت، وانسداد الأفق السياسي الفلسطيني والعودة إلى الأردن ضمن ما عُرف باتفاق عمّان لسنة 1985.
تلا ذلك الانسداد انفراج فلسطيني في الأدوات والخيارات عبر اندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى في سنة 1987، ثم إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر في سنة 1988، والذي يحمل اعترافاً مبطناً بقبول حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة «إسرائيل».
ويتناول الشريف المسيرة السياسية المتعثرة التي استثمرت الانتفاضة سياسياً لدخول مسار مدريد التفاوضي ضمن وفق فلسطيني - أردني مشترك، ولاحقاً دخول نفق أوسلو التفاوضي الذي تكلل باتفاقية إعلان المبادئ في سنة 1993، لكن عدم التزام دولة الاستعمار الاستيطاني بالاتفاقيات أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية في سنة 2000، بينما جرت جملة من التحولات في بنية النظام السياسي الفلسطيني بعد رحيل الرئيس الشهيد ياسر عرفات في سنة 2004، وانتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية في سنة 2005، وفوز حركة «حماس» بالأغلبية في المجلس التشريعي في انتخابات 2006، واندلاع الخلاف السياسي بين حركتَي «فتح» و«حماس»، وحدوث الانقسام الفلسطيني في صيف سنة 2007، والذي ما زال مستمراً بعدما تمأسس سياسياً ومؤسساتياً.
جزء كبير من التشخيصات السياسية والأكاديمية أجمعت على أن المشروع الوطني الفلسطيني القائم على حل الدولتين والاستقلال الفلسطيني، وصل إلى طريق مسدود، وأنه في حالة أزمة يشخصها البعض الآخر بالمأزق.
يقدم الشريف جملة من الاجتهادات أو البدائل في شأن الخروج من المأزق الفلسطيني منها: العودة إلى مشروع الدولة الواحدة؛ التمسك بهدف الدولة الفلسطينية المستقلة والعمل على تغيير موازين القوى؛ مستقبل السلطة ما بين الدولة الواحدة أو الدولة المستقلة؛ البحث عن بدائل تستبدل التركيز على الدولة بالتركيز على الهوية الوطنية الفلسطينية، وذلك باعتبار أن فكرة الدولة فرع من فروع النضال الفلسطيني لا عُقْدته؛ استنفار الهوية الفلسطينية وتفعيلها؛ وضع الإنسان وليس الدولة في مركز المشروع الوطني الفلسطيني؛ إحياء مشروع وطني جديد ينطلق من قضايا معيشية ثمة مصلحة مباشرة فيها للجمهور؛ إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتشكيل إطار جامع؛ الإجماع على المقاومة الشعبية كأسلوب كفاحي ناجع وجامع للجميع.
* باحث فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك