أطباء: إذا تخلت المستشفيات الخاصة عن رسالتها الإنسانية.. تحولت إلى دكاكين!
د. الــعــرادي: مــــــن دون اســــتــراتيـجـــــية واضــــــحــة.. سـنبـقـى ندور في دائرة مفرغة
د. الــمــيــر: الأطـبـاء الـشـرفـاء هم من رفعوا أســـعـــارهـــم حـفــاظــا علـى جـودة الـخـدمــات
د. الدلال: يـقـع الطبـيـب في الـفـخ إذا لـم يــحـترم الـشـعــرة الـدقــيـقـة بـين الطـب والـعـمـل الـتجـاري
الطب الخاص: لسنا ندا للسلمانية.. وكادر الأطباء سبب كاف لهجرة الكفاءات
في الجزء الأول من الموضوع، أعادت «أخبار الخليج» فتح ملف معاناة المواطنين من جانبين، الأول هو تأخر المواعيد في مستشفى السلمانية الطبي بشكل قد يتجاوز العام. والجانب الثاني هو معاناة المواطنين والمقيمين من تحول (بعض) المستشفيات الخاصة الى مراكز استثمارية تجارية بحتة يتففن فيها (بعض) الأطباء في إرهاق كاهلهم ونهش البقية الباقية من دنانيرهم بتحاليل وطلبات ربما غير ضرورية. فضلا عن تبادلهم المرضى فيما بينهم انطلاقا من مبدأ (نفعني وانفعك). وكل ذلك يضع المواطن المغلوب على أمره بين المطرقة والسندان، مطرقة السلمانية.. وسندان الطب الخاص.
وهذا ما يقودنا إلى تساؤلات مهمة: إلى أي مدى استطاع قطاع الطب الخاص في البحرين أن يسهم في تخفيف الضغط عن المستشفيات الحكومية بالمملكة؟ وهل كان له دور في الارتقاء بالخدمات الطبية؟ أم بقيت المراكز والمستشفيات الخاصة مجرد مشاريع تجارية؟ من المسؤول عن مراقبة الطبيب وقراراته؟ ثم.. إذا كانت المستشفيات الخاصة قد انتشرت خلال السنوات الماضية بشكل غير مسبوق، مع انتشار نسبي للتأمين الصحي، لماذا لاتزال السلمانية تعاني ذات الضغط.. وربما أسوأ؟
تساؤلات ناقشناها مع عدد من المسؤولين في القطاع الطبي الخاص.
دكاكين!
نبدأ رحلتنا في المستشفيات الخاصة مع العضو المؤسس ورئيس مجلس ادارة مستشفى ابن النفيس السابق، استشاري جراحة العظام والمفاصل واصابات الملاعب، د. علي جعفر العرادي، لنسـأله عما إذا تحولت المستشفيات الخاصة فعلا الى مشاريع تجارية أكثر من كونها إنسانية؟ وهذا ما أجاب عليه بقوله:
لا يمكن ان ننكر وجود هذه الحالات. ولكن يجب هنا ان نبدأ من جذور المشكلة. فأولا يفترض ان تكون التراخيص للمؤسسات الطبية الخاصة مقننة، أي لا يفتح المجال على مصراعيه لكل من له رغبة في فتح مشروع تجاري، وخاصة ان لدينا توجها جادا لتنويع مصادر الدخل، ومن ذلك تطوير السياحة العلاجية. ولكن هذا له متطلبات منها التركيز على إيجاد خدمات ومؤسسات صحية راقية فقط، وإلا تحول الكثير من هذه المؤسسات الى دكاكين لا تخدم استراتيجية البلد. هنا لا بد ان نشيد بدور الهيئة الوطنية لتنظيم المهن والخدمات الصحية «نهرا» في المراقبة الصارمة والمتابعة المستمرة، ولكن كما ذكرت يجب أن نعود الى أصل المشكلة وهي تقنين التراخيص. فمثلا قبل منح أي ترخيص يجب ان نسأل: ماذا سيقدم هذا المشروع الطبي للبلد وللخدمات الطبية؟ ماهي المسؤولية الاجتماعية التي سينهض بها.؟. فلطالما ناديت على سبيل المثال بأن يخصص صندوق خيري بكل مؤسسة طبية للنهوض بالمسؤولية الاجتماعية ودعم غير القادرين.
لذلك اشدد على أن الجانب الإنساني في أي مؤسسة صحية يجب ان يكون هو الصورة الطاغية، ومتى ما افتقدت المؤسسة الصحية هذا الجانب تحولت إلى شركة تجارية وإلى دكاكين! بل للأسف هناك الكثير من المؤسسات التي ننظر اليها كدكاكين وليس مؤسسات صحية أو مستشفيات. وهذا جور في حق المريض. لذلك نحتاج الى جهود مشتركة مع الدولة لتأسيس مؤسسات صحية صحيحة تخدم المجتمع والدولة، فنحن لسنا اقل من الدول الأخرى، بل نحن قادرون فعلا على تحسين مستويات السياحة العلاجية، ولكن إذا أعطيت المجال لمؤسسات رخيصة بحجة المنافسة او تقديم خدمات رخيصة على حساب جودة التشخيص الصحيح، فإن هذا قد تكون كلفته أعلى بكثير. وبالتالي يجب ان نكون واقعيين، إذا كنت تريد علاجا صحيحا، فقد يكون ذلك مكلفا لأنه يتطلب فحوصات وتحاليل مسبقة. وليس من الانصاف مقارنة الامر بمؤسسات أخرى تقدم خدمات أرخص ولكن لا تكون بنفس الكفاءة، بل قد تكون أكثر كلفة إذا ما تم إعطاء علاجات من دون تحليلات كافية.
ثم حتى لو حدثت الحالات التي اشرت اليها في مؤسسات صحية كبيرة وشعرت أنه طلب منك تحاليل غير ضرورية، لديك إمكانية اختيار الأطباء الذين تثق فيهم. فهناك الكثير من الأطباء البحرينيين من ذوي الخبرة العالية والسمعة الطيبة. ففي النهاية هي مهنة إنسانية ويجب على جميع الأطباء ان يتقوا الله في المرضى والا يكثروا من طلبات أي امر غير ضروري. فالمستشفى الطبي هو في الأول مشروع طبي، وليس من الخطأ ان تربح، ولكن حقق أرباحا مع مراعاة الدور الإنساني في هذا المشروع.
تخفيف الضغط
{ في رأيك، الى أي مدى استطاعت المستشفيات الخاصة في البحرين ان تسهم في تخفيف العبء عن السلمانية من جانب والارتقاء بالخدمات الطبية من جانب آخر؟
{{ لا شك ان وجود القطاع الخاص يسهم بشكل كبير في تخفيف الضغط على المستشفيات العامة. ومع وجود الكثير من الشكاوى بخصوص نقص الاسرة، وتزايد الكلفة الاجمالية لوزارة الصحة بسبب الضغط على المستشفيات الحكومية، كان للمستشفيات الخاصة دور في تخفيف العبء واستقطاب اعداد كبيرة من المراجعين خاصة المقتدرين.
ولكن هناك بعض الجوانب ربما تعيق هذا الدور. فمثلا، المبدأ الذي يجب ان تعمل به المستشفيات الخاصة هو الشراكة مع الدولة. ما يعني ان القطاعين ليسا ندين لبعضهما وانما يكملان بعضهما بعضا.
إلا ان هناك مشكلة تكمن في نظرة البعض إلى المستشفيات الخاصة على انها منافس للمستشفيات الحكومية، وهذا امر خاطئ، لأنه ببساطة لن تكون المنافسة متكافئة نظرا إلى ما يتمتع به القطاع العام من قدرات وامكانيات، لذلك مسؤولية المستشفيات الخاصة هي اكمال الأدوار وتخفيف العبء عن المستشفيات الحكومية.
وهذا ما يتطلب وجود اشبه باتفاقية تفاهم بين القطاعين لتحقيق التكامل. فمثلا إذا ما كان هناك نقص في المستشفيات الخاصة في المعدات مثلا، يمكن للمستشفيات العامة ان تسهم في توفير المعدات، لان هذا المريض إذا لم يعالج في الخاص سيتجه الى السلمانية مثلا، أي عدنا الى نفس الإشكالية وهي زيادة الضغط على السلمانية. وفي الواقع يمكنني القول بأننا لا نلمس مثل هذا التعاون دائما.
فمثلا، في احدى الحالات كانت هناك إشكالية نقص في مناظير الأمعاء بالسلمانية، ومن باب المسؤولية قدمنا هذه المعدات حتى تم استيراد مناظير للسلمانية. ولكن في الواقع لا نجد نفس هذه المعاملة في المقابل. ففي احدى الحالات التي باشرتها، وكانت كسرا في حوض أحد المرضى. والعملية تتطلب أنواعا من (المسامير الخاصة). وكان أحد المقاسات (100 ملم) غير متوافر لدينا. فاتصلت بالوزارة وطلبت شراء عدد منها او تعويضهم بأدوات اخرى. ولكن رفضوا الامر. ما اضطرنا الى توصيل الامر الى أعلى المسؤولين في الوزارة وتكرار المحاولة حتى حصلنا عليها. والسؤال هنا: إذا لم تتوافر هذه المعدات في القطاع الخاص فسيضطر المرضى الى العودة الى السلمانية وبالتالي يتزايد الضغط.
أضف الى ذلك، ان تزايد الضغط على السلمانية من الطبيعي ان يخلق إشكاليات كثيرة، الأمر الذي يجعل الكثير من المراجعين يعزفون عن التوجه الى السلمانية وتفضيل العيادات الخاصة. ومن هذه الإشكاليات ما يمكن وصفه بهجرة العقول والكفاءات من الطب العام لأسباب منها الدخل وعدم التقدير الذي يستحقونه. وبالمقابل وجدت هذه الكفاءات نفسها أكثر في القطاع الخاص. فمثلا عندنا في مستشفى ابن النفيس، أكثر من 90% من الأطباء هم بحرينيون.
أين المشكلة؟
{ لا ننكر ان هناك دورا بارزا للمستشفيات الخاصة في تخفيف العبء، ولا ننكر ان هناك محاولات واستراتيجيات جادة من قبل الجهات المعنية للتخفيف من مشاكل السلمانية، ولكن بنفس الوقت لا يمكن ان ننكر ان المشكلة مازالت مستمرة بل في تفاقم. اين تكمن الإشكالية في رأيك، وهل هي مشكلة غير قابلة للحل أساسا؟
{{ بالإمكان حل المشكلة، ولكن في رأيي ان هناك مشكلة إدارية. فعندما تخصص ميزانية في المكان الصحيح وتبتعد عن الكثير من الإشكاليات القائمة، وتركز امكانياتك على حل المشكلة مع الابتعاد عن المجاملات، يمكن ان تتجاوز الكثير من العقبات.
{{ لنكن أكثر واقعية، هناك زيادة سكانية متفاقمة، ميزانيات مقلصة، موارد محدودة، كيف لا نتوقع هذه الازمة؟
{{ نعم الزيادة السكانية المطردة مشكلة متفاقمة، لكن لا تنسى ان الكثير من المواطنين والمقيمين يمتلكون تأمينا صحيا، وهناك نسبة كبيرة مقتدرون يمكنهم التوجه إلى القطاع الخاص. وهنا الفئات الأخرى وهي ما يجب التركيز عليها وتقديم الخدمات الطبية لها بالجودة والوقت المناسب. والقطاع العام يبقى مسؤولا عن هذه الفئات. واستشهد هنا بخطاب فيدل كاسترو في منظمة الصحة العالمية عندما اعتبر ان خصخصة قطاعي الصحة والتعليم امر غير صحي لأنها تبقى مسؤولية الحكومات، ما يعني ضرورة ان تكون لهما الأولوية لانهما أساس التنمية البشرية، فلا يمكن ان تحدث التنمية في مجتمع يعاني مشاكل صحية أو ثقافية. وهذا ما يعني تبعا ان تكون الأولوية في الميزانيات هو الصحة والتعليم ومواجهة الضغوط المتزايدة.
ثم لماذا لا نضع النقاط على الحروف؟ إدارة المستشفيات الحكومية لم تعد تتبع وزارة الصحة كما كانت، صحيح ان الاستقلالية قد تكون مطلوبة ولكن يجب ان تكون متوازية مع توفير الإمكانيات والطاقات والعناصر المناسبة للارتقاء بالخدمات. ولا ندعي هنا ان الحلول قد تكون سهلة او سريعة بعصا سحرية، ولكن يجب ان توضع البرامج المناسبة لذلك والا نبقى ندور في دائرة مفرغة.
مشاكل متوقعة
محطة أخرى ننتقل اليها ضمن نقاشنا في موضوع وهي جمعية أصحاب المؤسسات الصحية الخاصة، وتحديد مع رئيس مجلس إدارة الجمعية الدكتور حسين المير، لنسأله بداية عن تحليله الخاص لاستمرار مشكلة الضغط على السلمانية، وما إذا كان الطب الخاص عاجزا عن تخفيف هذا الضغط.
أولا -يجيبنا المير- يجب ان نؤكد أن وزارة الصحة والإدارات المعنية يقدمون ما يمكنهم من خدمات طبية مشهودة للمواطنين والمقيمين، واعتقد أنه من الظلم ان نوجه اللوم إلى إدارة المستشفى او وزارة الصحة من دون النظر الى ابعاد المشكلة.
فعلى الرغم من تلك الجهود الكبيرة، تبقى التحديات قائمة، ومن الطبيعي أن نتوقع مشاكل تتعلق بالمواعيد والضغط على السلمانية. ومن هذه الأسباب أن مستشفى السلمانية لم يشهد تغييرات جذرية منذ أكثر من عقدين، وبالمقابل تضاعف عدد السكان بشكل كبير. بمعنى لم تشهد الطاقة الاستيعابية نموا موازيا للنمو في عدد السكان. بل إذا شئنا الدقة، نجد ان البحرين تحتاج على الأقل إلى مستشفيين آخرين بحجم السلمانية.
ومن التحديات ايضا صعوبة الاحتفاظ بالعقول والكفاءات لأن الرواتب لا ترقى الى طموحاتهم، وخاصة أنهم يحصلون على فرص تصل الى الضعف في القطاع الخاص او في دول مجاورة. وهذه المشكلة لا تعود الى الوزارة نفسها وانما المشكلة في ان كادر الأطباء ليس مفصولا في ديوان الخدمة المدنية. وبالمقابل دوام الطبيب أطول بكثير من الموظف العادي، بل يمتد على مدار الساعة ويكون تحت الطلب والاستدعاء في أي لحظة.
وبنفس الوقت هناك تحديات تنبع من جوانب إدارية يمكن معالجتها. فمثلا يشير تقرير ديوان الرقابة الى ان كلفة غسيل الكلى يكلف 70 دينارا في الجلسة الواحدة. ولكن نجد ان كلفتها في الطب الخاص 45-50 دينارا. هنا يمكن ان تحال الحالات الى الطب الخاص، وبذلك يقل الضغط على السلمانية من جانب، وتوافر الكثير من الأموال يوميا. وفي نفس الوقت يمكن استخدام المساحات المستخدمة لمرضى غسيل الكلى لاستيعاب عدد أكبر من المرضى.
ونفس الامر بالنسبة للأشعات بأنواعها والمناظير وغيرها، حيث ان الاستعانة بالطب الخاص تقلل الضغط بشكل ملموس. لذلك يمكن القول إن احدى المشكلات هي عدم التعاون مع القطاع الخاص، بل أحيانا تكون هناك شبه منافسة. فمثلا المستشفيات الحكومية وعلى الرغم من الضغط الكبير عليهم، تتحول أحيانا الى اشبه بمستشفيات خاصة من خلال (التشغيل الذاتي) وتغطية المصاريف، وبالتالي التوجه إلى طرق تجارية مثل محاولة استقطاب شركات واندية وعيادات وغيرها. وهذا ما يضاعف من الضغط. وبالطبع، فإن المريض الذي يدفع يكون له الأولية، في حين ان المريض الذي يتعالج بالمجان يضطر الى الانتظار!
الترخيص متاح للجميع
{ وهل تعتقد أن المستشفيات الخاصة أسهمت في تخفيف العبء على السلمانية فعلا؟
{{ بكل تأكيد. فمن دون القطاع الخاص كنا سنعيش أزمة حقيقية. بدليل انه بشكل يومي تصلنا حالات لمرضى من السلمانية لا يستطيعون انتظار المواعيد البعيدة في السلمانية. كما أن المستشفيات الخاصة أسهمت بشكل كبير في الارتقاء بمستوى الخدمات وصارت تقدم خدمات كثيرة ربما كانت حكرا على المستشفيات الحكومية سابقا، مثل العمليات الدقيقة كاستبدال مفاصل وزراعة القوقعة وعمليات العمود الفقري وجراحات الأورام والبنكرياس والكبد وغيرها.
{ ولكن الشكاوى كثيرة بأن الطب الخاص استغل هذه الحاجة وبات يرفع الأسعار ويتفنن في تحميل المراجع مصاريف مضاعفة قد لا تكون ضرورية؟
{{ فيما يتعلق بالأسعار، لا يمكن أن ننكر أولا أن كلفة الطب الخاص بالبحرين أقل بكثير من الدول المجاورة. نعم الأسعار ترتفع، ولكن لماذا لا ننظر الى الموضوع من جميع الزوايا.
ولنبدأ بالمصاريف الأساسية. فقد ارتفعت رسوم تقاعد الموظفين 5%، وهذه كلفة إضافية. الإيجارات ارتفعت، كلفة الكهرباء تضاعفت 300%، بعض المواد التي كنا نستخدمها ارتفعت من 18 دينارا الى 25. بعض الرسوم الحكومية ارتفعت أكثر من عشرة اضعاف. تخيل تراخيص الموظفين التي كانت تكلف عشرة دنانير سنويا للشخص أصبحت مائة دينار. تصور ان سجل المقاولات مثلا 50 دينارا، في حين ان سجل المستشفى بات 3000 دينارا في السنة. عدا عن رسوم المجلس الأعلى للبيئة والتجارة وغيرها من الرسوم التي كثير منها لا تفرض على القطاعات الاخرى. فضلا عن ان رواتب الأطباء ليست كباقي الموظفين. هل تعلم ان كل صنف دواء يستورده الوكيل يدفع عليه سنويا 300 دينار؟ وهذه الرسوم لم تكن موجودة في السابق.
أمام ذلك أليس من الطبيعي ان ترتفع رسوم الزيارة للطبيب؟ بل بعض الخدمات نقدمها بخسارة بسبب العقود.
وهنا اقولها بكل ثقة ان الأطباء الشرفاء المحافظين على قيم المهنة وجودة الخدمات هم من رفعوا أسعارهم، لأنهم رفضوا تقديم خدمات طبية بجودة أقل. وإلا كيف يمكن البقاء على نفس الرسوم وتحمل كل هذه الأعباء المضاعفة؟ إلا إذا تم اللجوء إلى مواد أرخص وخدمات أقل جودة.
{ هذا صحيح، ولكن أن يتحول الأمر إلى متاجرة بالمريض وتحميله تكاليف ترهق كاهله من دون ضرورة هو الأمر غير المقبول من مهنة إنسانية. ألا يعني ذلك ان تتحول المؤسسات الطبية الى مشاريع تجارية؟
{{ الرسالة الإنسانية لا تقتصر على الطب، فحتى الشرطي والإطفائي والمحامي والمدرس كلها مهن ذات رسالة إنسانية.
ولكن دعني اسألك هنا، عندما تقدم على ترخيص لمشروع طبي، ترى ان الاسم الرسمي لها في الرخص والسجلات هو مشروع استثماري، أي انه يصنف كمشروع تجاري!
لذلك المشكلة في جانب آخر، وهي السماح لأي مستثمر كان بافتتاح مركز طبي من دون حتى اشتراط تاريخ طبي او تخصص او اشتراط إضافة خدمات متقدمة. حتى العامل عندك أو البواب إذا امتلك مبلغا من المال يمكنه الحصول على ترخيص افتتاح مركز طبي. وهنا بالتأكيد يكون تركيز هذا المستثمر على تحقيق أرباح. والمشكلة تتفاقم عندما يكون الطبيب تحت سلطة رجل الاعمال الذي يطالب إدارة المستشفى والأطباء بتحقيق أرباح سنوية.. أو إنهاء عقودهم! وهو من يوظف الطبيب ويرقيه. في حين يفترض أن يكون الامر في المؤسسات الطبية هو العكس، أي يكون الأطباء هم من يديرون المؤسسة. وبعض المستثمرين أساسا غير مقيمين، بل يتعاملون مع المستشفى الخاص الذي يمتلكه كأي شركة أخرى يمتلكها.
ثم إن وجود فئة تمارس مثل هذه التصرفات التي أشرت اليها لا يسيء الى القطاع الطبي الخاص ككل. ففي كل مهنة هناك فئة فاسدة لا يمكن أن نعممها على المهنة كلها.
ومن الانصاف هنا الإشادة بدور الجهات الرقابية مثل (نهرا) في وضع عقوبات صارمة في حال ثبوت أي مخالفة. ولكن العتب على منح التراخيص من قبل وزارة التجارة والصناعة لكل من يرغب في فتح استثمار طبي من دون ضوابط. لذلك أقول للجهات المعنية: أنتم من حولتهم الطب الى مشروع استثماري! انظر الى أغلب المراكز التي فتحت في السنوات الأخيرة، أغلبها تجميل وليزر وتقويم اسنان وغيرها من الخدمات ذات المردود السريع من دون ان تسهم في الارتقاء بالخدمات الطبية عامة.
الجانب الآخر الذي اود الإشارة اليه، هو أن الطبيب قد يضطر الى اجراء الفحوصات الكثيرة تجنبا للوقوع في الأخطاء والمساءلة، ولكن يعتقد المريض انها محاولة لاستغلاله. فمثلا أحد الاطباء مؤخرا، أراد ان يجري عملية ختان لطفل عمره حوالي عامين، وهو عمر كبير نسبيا، وفي الغالب يتم وضعه في التخدير الكلي. ولكن لأن الوضع المادي لعائلة الطفل ضعيف، أخبرهم الطبيب بأنه سيستخدم مخدرا موضعيا. وخلال العملية تحرك الطفل وتسبب في حدوث جرح بالمنطقة (من دون عاهة)، ما اضطر الامر الى اللجوء الى خياطة الجرح ومتابعات متعددة، ولجأ والد الطفل الى مقاضاة الطبيب. والسؤال هنا: هل كان تصرف الطبيب بواقع استغلالي أم إنساني؟ نعم هو ارتكب خطأ ولكن كان بحسن نية، لكنه مستقبلا لن يفكر لحظة في تغليب الجانب الإنساني خوفا من الوقوع في الخطأ.
امتصاص الأزمة
نشد رحالنا هذه المرة إلى مستشفى الكندي التخصصي، لنلتقي عضو مجلس الشورى، استشارية أمراض وجراحة اللثة، والرئيس التنفيذي للمستشفى الدكتورة ابتسام الدلال، لنبحث عن مدى اتفاقها او اختلافها مع الآراء السابقة. وانطلاقة الحديث كانت حول مساهمة القطاع الخاص في دعم جهود نظيره العام وامتصاص ولو نزر من الضغط المتفاقم على السلمانية تحديدا.
وهذا ما تجيبنا عليه الدكتور ابتسام بقولها: بكل تأكيد لعب الطب الخاص في المملكة دورا محوريا في تخفيف حدة الضغط على الخدمات الطبية الحكومية من جانب، والارتقاء بطبيعة الخدمات المقدمة من جانب آخر.
وتضيف: ربما لا نلحظ هذا الدور الكبير في تخفيف العبء لأسباب عدة، منها أن عدد السكان تزايد بشكل كبير، وكذلك ارتفعت نسب بعض الأمراض مثل أورام القولون والصدر وغيرها، وبالمقابل بقيت الطاقة الاستيعابية لمستشفى السلمانية ثابتة. وهذه الزيادة في عدد السكان والحاجة المتنامية الى الخدمات الطبية، تمكن الطب الخاص من امتصاصها.
كما لعب الطب الخاص دورا في الارتقاء بمستويات الخدمات الطبية وأسهم في تقديم خدمات مميزة مثل أقسام الاشعة والمناظير والعمليات الجراحية وغيرها. وفي الوقت الذي تضم فيه السلمانية حوالي ألف سرير، فإن الطب الخاص يضم مالا يقل عن 500 سرير بنسبة إشغال لا تقل عن 60-70%.
ولولا هذا الدور الذي يقوم به الطب الخاص، لكانت الأزمة والمشكلة أكبر بكثير في السلمانية. وهناك مستشفيات خاصة أثبتت قدرتها على تقديم مستويات عالية جدا، وهناك من نأمل أن تصل الى هذه المستويات. ولا اقصد هنا المباني أو التسهيلات المقدمة، وانما جودة الخدمات الطبية.
كما قامت بعض المستشفيات الخاصة بمهمة استيعاب أكبر عدد ممكن من الاطباء والممرضات والفنيين البحرينيين الجدد وتدريبهم وتأهيلهم ليكونوا مرغوبين في سوق القطاع الطبي وهذه خدمة وطنية يستفيد منها القطاع العام بشكل أساس، حيث تنتقل هذه الكوادر الى المستشفيات الحكومية.
وفي الوقت ذاته، يجب ان نشير الى جانب مهم هو ان الخدمات الطبية الحكومية تبقى أكبر في الإمكانيات في جوانب معينة مثل العناية المركزة والوحدات المتخصصة كوحدات القلب وعلاج السرطان. فهذه الجوانب تكون المستشفيات الحكومية هي الاقدر على توفيرها وبمستويات عالية نظرا للإمكانيات التي تتمتع بها.
يضاف الى ذلك أن تطور الخدمات الطبية المميزة المقدمة في المراكز الصحية الحكومية والتي قد لا توجد في الكثير من الدول الأخرى، يسهم بشكل فعال في تخفيف الضغط على مستشفى السلمانية. وما يساعدنا على تقديم الخدمات الطبية الجيدة سواء في القطاع العام او الخاص هو صغر المساحة في المملكة.
{ بصراحة.. هل تعتقدين أن العلاقة بين الطب الخاص والعام حاليا علاقة تكاملية أم تنافسية؟
{{ حاليا لا يمكن وصفها بعلاقة تنافسية، وربما عندما يطبق التأمين الصحي الشامل سيخلق نوعا من التنافس الإيجابي.
وإجمالا يمكن القول بأن العلاقة بين القطاعين تسعى لأن تكون تكاملية. فمثلا إذا ولد طفل في الطب الخاص ويحتاج الى عناية مركزة، اين سيذهب؟ بالطبع الى السلمانية. بمعنى ان الخدمات التي تقدمها الحكومة هي العمود الفقري للخدمات الطبية بالبحرين، ثم يأتي الطب الخاص ليستكمل هذه الخدمات بما في ذلك العمليات المعقدة وبأياد بحرينية ذات كفاءة عالية تدربت أساسا من قبل الحكومة سواء في الخارج او في المستشفيات الحكومية. وفي فترات سابقة كانت هناك لجنة كنت عضوا فيها، هدفها تطوير العلاقة التكاملية التامة بين القطاعين الطبيين الخاص والعام، بما في ذلك التدريب. لذلك اليوم عندما احتاج مثلا الى تدريب معين في الاشعة، أستطيع بكل سهولة ان أرسل الفنيين البحرينيين الى السلمانية ليتلقوا التدريب الكافي مجانا. صحيح اننا لم نستطع الوصول الى العلاقة التكاملية النموذجية لأسباب لوجستية وأخرى تعود الى التراخيص، ولكن العلاقة تبقى تعاونية مميزة.
مشروع استثماري.. في الطب
{ لا ننكر طبيعة الأدوار المهمة التي يقدمها الطب الخاص بالمملكة، ولكن هل من المقبول أن تشوب هذه الأدوار شكاوى متكررة حول تحول الكثير من هذه المراكز الى استثمارات تجارية على حساب المراجع المغلوب على أمره؟
{{ الحديث يطول في هذا الجانب، ولا ننكر وجود هذه المشكلة فعلا. فهناك ممارسات وان كانت لا ترقى الى مستوى الظاهرة المنتشرة، فإنها تسيئ للقطاع بشكل عام.
أولا هناك شعرة دقيقة جدا بين الطب وبين العمل التجاري في الطب. وإذا لم تحترم هذه الشعرة، يقع الطبيب في الفخ التجاري. وهذا ما نرفضه تماما كمهنيين. والتحقق من احترام حدود هذه الشعرة هي مسؤولية الطبيب نفسه، وليس أي جهة أخرى. إذ يجب ان يتمتع الطبيب بالشعور المهني والإنساني تجاه المريض. فمثلا الزيارات اللاحقة بعد العملية او العلاج، تكون في الغالب بسيطة وقصيرة. فما الداعي لأن تكون مكلفة على المريض؟ ولماذا أطلب تحاليل وأشعة غير لازمة طالما يمكنني معرفة العلة. هذه الشعرة هي التي تحكم أهلية الطبيب واحترامه للمهنة.
بنفس الوقت يجب ان نشير الى جانب مهم هو اننا اعتدنا ان تقدم الخدمات الطبية لنا مجانا. وهنا عندما يتجه البعض الى القطاع الخاص يفاجأ بحجم الكلفة. وهي في الواقع تتناسب وطبيعة الكلفة في هذا القطاع والمعدات والرسوم والرواتب والاسعار التي تتحملها هذه المراكز والمستشفيات. وفي حين ارتفعت بعض التكاليف والرسوم عشرة أضعاف، إلا أن قيمة الخدمات المقدمة لم ترتفع بهذه النسب.
من جانب آخر، عندما نفتح باب الاستثمار في القطاع الطبي بهذا الشكل الواسع، من المتوقع ان تحدث هذه المشاكل. فما نحتاج إليه هو الاستثمار الموجه والمدروس في الطب لتوفير خدمات جديدة ومتطورة. فليس من المعقول مثلا ان نفتح عشرات المراكز التي تقوم بنفس النشاط في مجتمع صغير وسوق محدود، مثل الليزر والجلدية والأسنان! جميعها تقدم نفس الخدمات. هذا الامر يحولها الى دكاكين بسبب المنافسة، وخاصة أن هذه المشاريع تعمد الى الاستثمار الأقل كلفة والاقل خطورة، في حين اننا نحتاج إلى الاستثمار في مجالات متطورة مثل العلاج الاشعاعي للسرطان والعلاج الكيميائي والحالات المعقدة كنقل الأعضاء وغيرها.
{ هل يعتبر المستشفى الخاص مشروعا طبيا أم تجاريا استثماريا في رأيك؟
{{ هو مشروع استثماري، ولكنه استثمار في المجال الطبي وفي العلاج، وليس بالأموال. وهذا ما يجعل الامر حساسا ودقيقا. نعم من حقك ان تحقق أرباحا ولكن بالطرق الإنسانية الأخلاقية السليمة. بمعنى لا تستثمر وكأنك بنك او شركة تجارية، بل استثمر بما يضمن لك تحقيق ربح معقول، مع تطوير الخدمات والمعدات والخدمات المقدمة.
ولا ننسى هنا أن هناك بعض المستشفيات تقدم تخفيضات خاصة وإجراءات علاجية مجانية مراعية النواحي الإنسانية. وبعض هذه الاجراءات تتم بالتعاون مع الجمعيات والصناديق الخيرية.
{ هناك من يرى أن المشكلة تكمن في تأسيس هذه المستشفيات من قبل رجال أعمال وليس أطباء، الأمر الذي يضاعف حدة المشكلة؟
{{ بكل تأكيد. ودعني أضرب لك مثالا، احدى الطبيبات لدينا في المستشفى ممن تتمتع بمهنية وضمير حي، حصلت على عرض أفضل في مستشفى آخر. تقول إن رجل الاعمال صاحب المستشفى يسألها بشكل شبه يومي عن عدد العمليات والأشعات وغيرها من الإجراءات والتحاليل المكلفة. وعندما تخبره ان الحالات في ذلك اليوم لم تكن تستدعي، يسألها باستنكار: إذن كيف أحقق أرباحا؟
لذلك نفضل دائما أن يكون الأطباء هم من يقومون بإدارة المستشفيات وليس رجال أعمال يطلبون تحقيق نسبة أرباح بأي وسيلة. وبنفس الوقت، شخصيا كنت ولا أزال معارضة لوجود سجل تجاري للأطباء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك