من المحزن والمثير للسخط السهولة التي تتنقل بها وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية من قصة إلى أخرى ومن خبر إلى آخر حتى باتت على ما يبدو غير قادرة على مواصلة الاهتمام بالأحداث التي تتطلب كل الاهتمام.
لقد حظيت المأساة الإنسانية المؤلمة التي تدور وقائعها في قطاع غزة بمتابعة مستمرة لأكثر من عام غير أن هذا الاهتمام قد تلاشى الآن وتوارى عن الأنظار، وحجبته تطورات دراماتيكية أخرى تدور وقائعها في الشرق العربي.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، هيمنت على الأخبار الواردة من الشرق الأوسط الهجمات الإسرائيلية المدمرة على لبنان و«وقف إطلاق النار» الذي فرضته إسرائيل الآن.
أما هذه الأيام، فقد انصب كل الاهتمام وتعلقت كل التقارير الرئيسية بحركة هيئة تحرير الشام، المنبثقة عن تنظيم القاعدة، والتي تحركت وتسيطر على المدن السورية الكبرى مثل حلب وحمص.
ورغم أن هذه التطورات لها عواقبها بطبيعة الحال، فإن الحرب المستمرة على قطاع غزة وجراحها المتبقية لا تزال تستحق وتستوجب منا ومن العالم كل اهتمامنا.
في ظل هذه التطورات، كان من اللافت للنظر أن صحيفة نيويورك تايمز نشرت في يوم واحد هذا الأسبوع ثلاث قصص مهمة، تملأ صفحة ونصف صفحة كاملة، حول المأساة المستمرة في قطاع غزة.
وتركز أحد هذه المقالات على التقرير الجديد لمنظمة العفو الدولية والذي يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، وفيما تطرق تقرير آخر إلى غارة إسرائيلية دامية استهدفت وسط إحدى «المناطق الإنسانية» في غزة.
أما أهم هذه المقالات الثلاث فقد كان بعنوان «بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة، كانت الحياة في غزة دائمًا صراعًا. أما الآن فهي العذاب بعينه.» تبرز المقالات الثلاثة معا أهوال الأشهر الأربعة عشر الماضية في غزة، والقصف المستمر على الفلسطينيين النازحين، والمستقبل المؤلم الذي ينتظر الكثير منهم.
كان التقرير الصادر مؤخرا عن منظمة العفو الدولية مهما للغاية وذلك لعدة أسباب. فمنظمة العفو الدولية تعد في نهاية المطاف أبرز منظمة مدافعة عن حقوق الإنسان في العالم.
عندما عملت مدة أربع سنوات بتعيين رئاسي في لجنة أمريكية تعاملت مع قضايا الحرية الدينية، اعتمدت تقاريرنا السنوية وتحقيقاتنا بشكل كبير على عمل منظمة العفو الدولية.
كما أن وزارة الخارجية الأمريكية تفعل ذلك أيضًا. وسواء كنا نتعامل مع بلدان في إفريقيا، أو آسيا، أو العالم العربي، فإن الاهتمام ينصب على ما نشرته منظمة العفو الدولية.
يتم إدانة الدول بشكل روتيني بسبب سلوكياتها المسيئة تحت عبارة «كما ذكرت منظمة العفو الدولية» -مع استثناء واحد، وهو إسرائيل بالطبع. لقد حظي عمل منظمة العفو الدولية في كل مكان بالتبجيل، ولكن عندما كان الأمر يتعلق بإسرائيل، فإنه كان موضعاً للانتقاد.
ولذلك، فمن الأهمية بمكان أن تتخذ منظمة العفو الدولية هذه الخطوة الجريئة لتعلن بقوة أن «إسرائيل ارتكبت، وترتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة».
جاء في تقرير منظمة العفو الدولية ما يلي: «إن سلوك إسرائيل غير القانوني طوال هجومها العسكري، أدى إلى إلحاق ضرر غير مسبوق بالفلسطينيين في قطاع غزة أدى إلى نطاق واسع من عمليات القتل والإصابات الخطيرة خلال فترة قصيرة من الزمن».
رداً على هذه الاتهامات، اتبع الإسرائيليون ما أصبح مألوفا في سياساتهم. إنهم «يكذبون وينكرون ويحجبون»، ثم تجدهم في النهاية يتراجعون عن اتهام متهميهم بالتحيز. ومن المثير للاهتمام أنه حتى الآن لم يكن هناك سوى استجابة قليلة أو معدومة من المسؤولين في واشنطن.
لم يكن هذا هو الحال في عام 2022 عندما أصدرت منظمة العفو الدولية ومنظمة حقوقية بارزة أخرى، هي هيومن رايتس ووتش، تقارير خلصت إلى أن إسرائيل فرضت نظام الفصل العنصري على الشعب الفلسطيني الخاضع لسيطرتها.
وقد سارع الكونجرس والبيت الأبيض إلى إدانة هاتين الجماعتين المعنيتين بحقوق الإنسان، واللتين تعتمدان عليهما بشدة للحصول على معلومات عن بلدان أخرى.
ومن الجدير بالذكر أيضًا حقيقة أن لا واشنطن بوست ولا نيويورك تايمز لم تنشر أي شيء يتعلق بالاتهامات الموجهة إلى إسرائيل بالفصل العنصري. من ناحية أخرى، حظي تقرير حول الإبادة الجماعية هذا بتغطية كبيرة في كلتا الصحيفتين.
كانت قصة الغارة الجوية الإسرائيلية في المواصي دامية ومدمرة في نفس الوقت. لقد كانت دامية لأنها من المفترض أن تكون منطقة للإيواء الإنساني حيث من المفترض أن يكون الفلسطينيون الذين أمرتهم إسرائيل بإخلاء مناطق أخرى آمنين.
إن التفجيرات من هذا النوع تحدث يومياً، ولكنها نادراً ما تحظى بالتغطية الإعلامية، سواء لأنها أصبحت شائعة أو لأن القصص «الكبيرة» اليومية تحدث في مكان آخر.
ربما كانت القصة الأكثر إثارة للقلق من بين المقالات الثلاثة هي تلك التي تناولت محنة المعاقين في غزة. قبل هذه الحرب كان هناك 56,000 شخص معاق في قطاع غزة.
ورغم عدم توفر بيانات جديدة، فمن المؤكد أن هذا العدد قد زاد بشكل ملحوظ في العام الماضي. وقد أرفقت صحيفة نيويورك تايمز قصتها بصور أطفال بلا أطراف ويفتقرون إلى الكراسي المتحركة أو مرافق إعادة التأهيل أو التدخل الجراحي عند الحاجة.
يتطرق المقال المشار إليه بالتفصيل إلى المعاناة التي يواجهها فلسطيني معاق في غزة يحتاج ببساطة إلى الذهاب إلى الحمام حيث لا يوجد أي حمام يتسع لكرسي متحرك.
إن القلوب لتنفطر ويعتصرها الألم عندما ننظر إلى وجوه هؤلاء الأطفال الجالسين تحت أنقاض الأحياء المدمرة. إنهم أطفال أبرياء بلا مستقبل. من الصعب أن نتخيل العيش في منطقة خيام مكتظة في منتصف الشتاء أو بين بقايا مبنى مدمر في شارع تعرض للقصف. ولكن هذه هي الحياة التي يعيشها اليوم مئات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين.
ومن المؤلم دائمًا مواجهة مواقف تعكس مثل هذه المعاناة الإنسانية الأليمة. ولكن من المهم أن نفعل ذلك، خاصة في حالة قطاع غزة وسكانه، لأننا نحن الأمريكيين مسؤولون جزئياً عن ذلك.
وإذا اختفت القصص التي تروي مثل هذه المعاناة الإنسانية الأليمة ولم تعد تتصدر الصفحات الأولى لا يعني أنها لن تحدث، بل إنها مستمرة. لذلك فقد كان من المهم أن تعيدها إلينا صحيفة نيويورك تايمز في أحد أيام هذا الأسبوع.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك