العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

غزلية في الجغرافيا

قمت‭ ‬مؤخرا‭ ‬بأمر‭ ‬جعلني‭ ‬سعيدا‭ ‬جدا،‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬قمت‭ ‬بجرد‭ ‬مكتبتي‭ ‬الشخصية،‭ ‬وسحبت‭ ‬منها‭ ‬كل‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬قرأتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أعتزم‭ ‬قراءتها،‭ ‬وأهديتها‭ ‬لآخرين،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الانترنت‭ ‬كنت‭ ‬حريصا‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬قواميس‭ ‬عربي‭ - ‬انجليزي‭ - ‬عربي‭ ‬‮«‬مطبوعة‭ ‬على‭ ‬ورق‮»‬‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجالات،‭ ‬ورغم‭ ‬انني‭ ‬لم‭ ‬اعد‭ ‬استخدمها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬قلبي‭ ‬لا‭ ‬يطاوعني‭ ‬في‭ ‬امر‭ ‬التخلص‭ ‬منها،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬عندي‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬نحو‭ ‬الثلاثين،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬فقط‭ ‬بدواعي‭ ‬‮«‬أكل‭ ‬العيش‮»‬،‭ ‬بحكم‭ ‬أنني‭ ‬اعتشت‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنني‭ ‬أحب‭ ‬سبر‭ ‬أسرار‭ ‬وأغوار‭ ‬الكلمات،‭ ‬وبي‭ ‬شغف‭ ‬غريب‭ ‬لمعرفة‭ ‬‮«‬أصول‭ ‬الكلمات‮»‬‭ ‬وجذورها،‭ ‬وكلما‭ ‬طالعت‭ ‬القواميس‭ ‬أدركت‭ ‬ضآلة‭ ‬حصيلتي‭ ‬اللغوية،‭ ‬أو‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أخطئ‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬أو‭ ‬نطق‭ ‬كلمات‭ ‬معينة‭ (‬اعترفت‭ ‬مرارا‭ ‬بأنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬موقع‭ ‬البوع‭ ‬والكراديس‭ ‬في‭ ‬الجسم‭) ‬وكان‭ ‬بي‭ ‬شغف‭ ‬بالأطالس‭ ‬‮«‬الورقية‮»‬‭ ‬نشأ‭ ‬من‭ ‬حبي‭ ‬لمادة‭ ‬الجغرافيا‭ ‬التي‭ ‬أعتبرها‭ ‬أم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬النظرية‭ (‬مثل‭ ‬الجيولوجيا‭ ‬والمناخ‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والسياسة‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬كلما‭ ‬أحسست‭ ‬بالملل،‭ ‬فتحت‭ ‬أطلسا‭ ‬وتمعنت‭ ‬في‭ ‬محتويات‭ ‬من‭ ‬القارات‭ ‬والبلدان،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬إمتاعا‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬أطالس‭ ‬موسوعية‭ ‬إلكترونية‭ ‬ذات‭ ‬المعلومات‭ ‬الدقيقة‭.‬

وعودا‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬شغفي‭ ‬بسبر‭ ‬غور‭ ‬الكلمات‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬كتّابا‭ ‬كثيرين‭ ‬أقرأ‭ ‬لهم‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬لغتهم‮»‬‭ ‬جميلة‭. ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬ما‭ ‬مستهلكة‭ ‬ومطروقة‭ ‬ولا‭ ‬تعجبني،‭ ‬فإنني‭ ‬قد‭ ‬أقرأه‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬لكاتبه‭ ‬أسلوب‭ ‬جميل‭ ‬أخاذ‭. ‬

وربما‭ ‬يفسر‭ ‬هذا‭ ‬لماذا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬اقرأ‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬سحرك‭ ‬يأتيني‭ ‬موجة،‭ ‬موجة‭ / ‬كغارات‭ ‬داعش‭ ‬على‭ ‬الفلوجة‭. ‬أعني‭ ‬به‭ ‬الكلام‭ ‬المرصوص‭ ‬شبه‭ ‬المسجوع‭ ‬الذي‭ ‬تنشره‭ ‬الصحف‭ ‬على‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬شعر،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬فصيلة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬راب‮»‬‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الغناء‭.‬

وأتى‭ ‬عليّ‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كنت‭ ‬فيه‭ ‬أقص‭ ‬الشعر‭ ‬المنشور‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات،‭ ‬وأحمل‭ ‬القصاصات‭ ‬معي‭ ‬أينما‭ ‬ذهبت‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬تعلق‭ ‬الأبيات‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تستهويني‭ ‬بذاكرتي،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬متسع‭ ‬حتى‭ ‬لأسماء‭ ‬الناس‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬امتلأت‭ ‬بأرقام‭ ‬الهواتف‭ ‬وكلمات‭ ‬السر‭/ ‬المرور‭ ‬الخاصة‭ ‬بالبريد‭ ‬الالكتروني‭ ‬وبطاقات‭ ‬سحب‭ ‬النقود‭ ‬وأرقام‭ ‬مساكن‭ ‬الأهل‭ ‬والمعارف‭.‬

وأكثر‭ ‬ما‭ ‬يرهقني‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬هو‭ ‬تذكر‭ ‬الأسماء‭: ‬أجلس‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬وآنس‭ ‬لها‭ ‬ويشدك‭ ‬كلام‭ ‬هذا‭ ‬وآراء‭ ‬ذاك،‭ ‬وأحاول‭ ‬مبادلتهم‭ ‬الحديث‭ ‬فاكتشف‭ ‬انني‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬أسماءهم،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬قدمهم‭ ‬إليّ‭.. ‬كيف‭ ‬تحفظ‭ ‬أسماء‭ ‬عشرة‭ ‬أشخاص‭ ‬أربعة‭ ‬منهم‭ ‬يحملون‭ ‬كنية‭ ‬أبو‭ ‬محمد‭ ‬وثلاثة‭ ‬كنية‭ ‬أبو‭ ‬عبدالله‭. ‬والثلاثة‭ ‬الآخرين‭ ‬غير‭ ‬متزوجين‭ ‬وأسماؤهم‭ ‬الأولى‭ ‬عبدالله‭. ‬صرت‭ ‬كلما‭ ‬التقيت‭ ‬خليجيا‭ ‬أعرفه‭ ‬أناديه‭: ‬هلا‭ ‬بو‭ ‬محمد‭ ‬فإذا‭ ‬تجاهلني‭ ‬صحت‭: ‬هلا‭ ‬بو‭ ‬عبدالله‭ ‬فـ«تطلع‭ ‬صح‮»‬‭. ‬في‭ ‬دولة‭ ‬قطر‭ ‬حيث‭ ‬أقيم‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬يحمل‭ ‬75‭% ‬من‭ ‬الذكور‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬الاسماء‭ ‬التالية‭: ‬عبدالله،‭ ‬محمد،‭ ‬حمد،‭ ‬جاسم،‭ ‬ناصر،‭ ‬سلطان،‭ ‬خليفة،‭ ‬سالم‭.. ‬ونحو‭ ‬15%‭ ‬اسماؤهم‭ ‬بالتحديد‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬وعبدالرحمن‭.. ‬وتقول‭ ‬المعلومات‭ ‬المتوافرة‭ ‬لدي‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬دليل‭ ‬الهاتف‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬خمسة‭ ‬جعافر‭ ‬يقيمون‭ ‬في‭ ‬قطر‭ ‬ثلاثة‭ ‬منهم‭ ‬سودانيون‭ ‬والاثنان‭ ‬الآخران‭ ‬باكستانيان‭ ‬الاسم‭ ‬الأصلي‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬‮«‬ظفر‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬شركة‭ ‬الهاتف‭ ‬‮«‬جعفرتهما‮»‬‭.‬

كان‭ ‬هدفي‭ ‬من‭ ‬مقال‭ ‬اليوم‭ ‬حث‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬إهمال‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬الجغرافيا‭ ‬لن‭ ‬يفهم‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ولكن‭ ‬الاستطراد‭ ‬الجاحظي‭ ‬ذهب‭ ‬بي‭ ‬بعيدا‭. ‬عموما‭ ‬يحزنني‭ ‬ان‭ ‬أشهد‭ ‬نفور‭ ‬الطلاب‭ ‬من‭ ‬الجغرافيا‭ ‬رغم‭ ‬ان‭ ‬دراستها‭ ‬فيها‭ ‬نفس‭ ‬متعة‭ ‬‮«‬اكتشاف‮»‬‭ ‬المجهول‭. ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬نفورهم‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ - ‬وربما‭ ‬بسبب‭ ‬مركب‭ ‬نقص‭ - ‬صرنا‭ ‬نقسم‭ ‬منهج‭ ‬الجغرافيا‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬عربي‭ ‬وعالم‭ ‬أجنبي‭. ‬ونلقن‭ ‬عيالنا‭ ‬عاما‭ ‬بعد‭ ‬آخر‭ ‬كلاما‭ ‬ممجوجا‭ ‬عن‭ ‬ان‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬يمكن‮»‬‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬سلة‭ ‬غذاء‭ ‬العالم‭ ‬وان‭ ‬مناخ‭ ‬البحر‭ ‬الابيض‭ ‬حار‭ ‬جاف‭ ‬صيفا‭ ‬دافئ‭ ‬ممطر‭ ‬شتاء‭.. ‬ويصدق‭ ‬الطالب‭ ‬ذلك‭ ‬ويذهب‭ ‬مع‭ ‬اهله‭ ‬الى‭ ‬اسبانيا‭ ‬في‭ ‬الشتاء‭ ‬فيخرج‭ ‬الى‭ ‬الشارع‭ ‬بملابس‭ ‬الصيف‭ ‬فيصاب‭ ‬بإنفلونزا‭ ‬الدجاج‭ ‬فيسيء‭ ‬الظن‭ ‬بالجغرافيا‭ ‬ويعتبرها‭ ‬تخاريف‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا