الحرب الهمجية التي تشنها «إسرائيل» على غزة ولبنان حالياً يبدو أن أمدها سيطول حيث لا يوجد في الأفق ما يوحي بقرب نهايتها بالرغم من النداءات المتكررة التي تطلقها المنظمات الدولية، وكذلك الدعوات التي يطلقها القادة في عديد من دول العالم لوقف هذه المجازر التي راح ضحيتها آلاف البشر من الشيوخ والنساء والأطفال.
إن هذه الحرب في رأيي ليس لها إلا هدف واحد وهو أن الساسة في «إسرائيل» وعلى رأسهم نتنياهو عاقدون العزم على إبادة الشعب الفلسطيني في غزة وإخراج البقية الباقية من أهل غزة من ديارهم ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية برمتها. ويتقاطع معهم في هذا الهدف بعض المفكرين والإعلاميين الصهاينة في داخل الدولة العبرية وخارجها. وهم جميعاً لا يعترفون بشيء اسمه السلام حيث إن هذا المفهوم غير موجود البتة في قاموسهم السياسي؛ فغالبيتهم لا يتقنون سوى لغة الحرب؛ فهي وسيلتهم الوحيدة في تحقيق أحلامهم التوسعية، وهذا ديدنهم منذ نشأة كيانهم المصطنع في عام 1948م.
بناء على هذه الاستراتيجية التي يتبناها هؤلاء، نرى إصرارهم على استمرار الحرب عبر تصعيد عملياتهم العسكرية وبوحشية قل نظيرها في تاريخ الحروب مستخدمين في ذلك كل أنواع الأسلحة التقليدية منها والحديثة انطلاقا من قناعاتهم الفكرية والسياسية والعسكرية؛ ضاربين بعرض الحائط كل الدعوات التي تطالب بوقف الحرب. ومن يقول غير هذا الكلام؛ فهو إما أن يكون مؤيداً «لإسرائيل» ومتعاطفاً معها إلى أبعد الحدود؛ فيبرر لها ما تقترفه من جرائم بحجة الدفاع عن النفس، أو أنه واقع تحت تأثير البروباغندا الصهيونية التي أعمته عن رؤية الحقيقة؛ فجاءت قراءته لمجريات الأحداث في المنطقة غير موضوعية. الشاهد إن قادة الكيان الصهيوني غير آبهين بنداءات وقف الحرب التي يطلقها بعض قادة العالم، ولا بدعوات الهيئات والمنظمات الدولية؛ فهم يصمون آذانهم عن هذه النداءات والدعوات وغير مبالين بها، بدليل أنهم ماضون في تنفيذ مخططاتهم الرامية إلى توسعة الحرب لتشمل مناطق أخرى في المنطقة.
في خضم هذه النيران المشتعلة الآن في كل من غزة ولبنان، يثير عدد من المراقبين تساؤلات وهي: لماذا لا يستجيب نتنياهو رئيس وزراء «إسرائيل» للدعوات المتكررة بوقف هذه الحرب الهمجية؟
ويضيف هؤلاء أنهم على قناعة تامة بأن أمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على لجم السلوك العدواني للدولة العبرية، وإجبارها على وقف نشاطاتها العسكرية. فالولايات المتحدة تمتلك ورقة تستطيع من خلالها الضغط على «إسرائيل» وإجبارها على الاستجابة للدعوات الأمريكية بوقف الحرب. تتجسم هذه الورقة في حظر مبيعات الأسلحة والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم تستخدم الولايات المتحدة حتى الآن هذه الورقة بالرغم من مرور أكثر من عام على المجازر والمذابح التي ترتكبها «إسرائيل» بحق أهل غزة ولبنان؟
ربما في مثل هذه الحالة يكون استدعاء التاريخ مفيداً؛ لأنه بالتأكيد سيسعفنا في تفسير ما يحدث اليوم في غزة ولبنان. فالتاريخ يعرض لنا مواقف الولايات المتحدة من «إسرائيل» منذ نشأتها؛ فهي أول دولة اعترفت بها عند إعلان قيامها في عام 1948 وكان ذلك في عهد الرئيس هاري ترومان. وقد واصل الرؤساء الذين تعاقبوا على رئاسة الولايات المتحدة دعمهم للدولة العبرية على مر السنين ولم تتغير مواقفهم منها بل إن بعضهم ذهب في هذا التأييد للكيان الصهيوني إلى حد كبير منذ بروز الولايات المتحدة على المسرح الدولي في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولما كانت هي الوريث الشرعي لبريطانيا فقد حافظت على حقوق الابن غير الشرعي «إسرائيل» وتعهدت بكفالته، وقامت برعايته فأصبح طفلها المدلل، ومنذ ذلك الوقت وهي تقوم بواجبها نحوه وتتعهده بالرعاية الكاملة؛ فتوفر له جميع مستلزماته واحتياجاته على أكمل وجه، وظلت تدعمه بالمال والسلاح وتحميه من كل الشرور التي يتعرض لها من جيرانه العرب (المتوحشين).! وهذا ما نراه بوضوح في عشية حرب عام 1967 حين قال الرئيس الأمريكي ليندون جونسون لأبا إيبان وزير خارجية «إسرائيل» آنذاك عبارته الشهيرة: «إسرائيل لن تكون وحدها إلا إذا سارت بمفردها» وفي عام 1973، وقف ريتشارد نيكسون إلى جانب «إسرائيل».
واليوم، نقول: ما أشبه الليلة بالبارحة ويتكرر المشهد الداعم للدولة العبرية من قبل الرؤساء الأمريكيين ويتجسم ذلك في عهد الرئيس الحالي جو بايدن وهو بالمناسبة لا يختلف عنهم في مساندته «لإسرائيل» بل لا نبالغ إذا قلنا إنه تفوق عليهم في حماسه، وتعاطفه الكبير للدولة العبرية، وكان ذلك قبل دخوله البيت الأبيض وتوليه الرئاسة، وعندما أصبح رئيساً لم يتأخر عن دعمها. وعندما تفجرت الأوضاع في غزة في السابع من أكتوبر2023 هب مسرعاً لنجدتها، وأصدر أوامره بتحريك أساطيل وبوارج بلاده نحو المنطقة لفزعتها والوقوف إلى جانبها، وبقيت الطائرات الأمريكية تحلق دون توقف تقريباً لإعادة إمداد ترسانة «إسرائيل» بالأسلحة. ولم يكتف بهذه الخطوة فقام بإرسال وزير خارجيته أنتوني بلينكن إلى تل أبيب ليطمئنها، وليؤكد لها في الوقت ذاته أنها ليست لوحدها في مواجهة حماس!.
إن المراقب لمواقف الولايات المتحدة من هذه الحرب يقف حائراً أمام سلوكها المتناقض فهي من جهة تساند «إسرائيل» وتقف معها منذ انطلاق شرارة الحرب، وهو ما دفع بعض المحللين إلى القول: إن الولايات المتحدة شريك أصيل في هذه الحرب، وإنها منحازة بشكل سافر «لإسرائيل» بدليل تصريحات وزير الخارجية أنتونى بلينكن الذي ما أن وطأت قدماه أرض مطار تل أبيب حتى قال: «أنا جئتكم اليوم ليس بصفتي وزيراً للخارجية ولكن كشخص يهودي ابن يهودي». هذا التصريح يكشف بوضوح أن الولايات المتحدة تقف في خندق واحد مع الصهاينة وهي لا تخفي هذا التحالف، حيث يردد مسؤولوها أكثر من مرة وقوف بلادهم إلى جانب «إسرائيل».
ومن جهة ثانية، نرى أن الولايات المتحدة تطالب «إسرائيل» بوقف إطلاق النار وهذا ما نلمسه في الدعوات المتكررة التي يطلقها الرئيس بايدن بهذا الخصوص وآخرها الاتصال الهاتفي الذي أجراه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بعد استشهاد السنوار وطالبه أن توقف «إسرائيل» هجماتها على بيروت وفي الوقت ذاته يصر بايدن على استخدام العبارة الكلاسيكية إن «إسرائيل» لها «الحق في الدفاع نفسها» في تناقض صارخ لسلوك الولايات المتحدة.
بعد كل هذه الأدلة التي تثبت تأييد الولايات المتحدة «لإسرائيل»، لا نعتقد أنها ستجبرها على وقف هذه الحرب الهمجية على غزة ولبنان إلا في حالة واحدة وهي أن تضغط من طرفها، وتبادر بحظر تصدير الأسلحة إليها وهذا الإجراء هو الاختبار الحقيقي لمصداقية الولايات المتحدة في مساعيها لوقف إطلاق النار؛ فهل تفعل ذلك وتنجح في هذا الاختبار؟!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك