زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كانت لنا أيام
تنشط قرون الاستشعار عندي كلما توشك سنة ان تلفظ أنفاسها الأخيرة، لأنني أهوى الوقوف على أطلال كل عام ينقضي لأتقصى ما حدث فيه من أمور جسام، ولكن لم يحدث قط أن احتفلت برأس السنة أو مؤخرتها، لأن السنة «مؤنثة» وأنا من عائلة محافظة، وعيب أن أتعامل مع رأسها أو ما دون ذلك، ولكنني احتفلت بليلة رأس القرن الحادي والعشرين، واشتريت في تلك الليلة كعكة اسفنجية بخمسة ريالات (في زمن كانت فيه الريالات الخمسة تكفي لشراء دجاجة مجمدة)، وعصير جوافة مصنوع في بلد ليست فيه شجرة جوافة واحدة، وجلست منذ أول المساء أمام التلفزيون أشاهد البلدان التي انتصفت فيها الليلة الأخيرة من القرن العشرين «مبكرا» في استراليا ونيوزيلندا والجزر التي تقع إلى الشرق منها، وعند انتصاف الليل، قمت بـ«حركات» اللحظة الانتقالية مثل إطفاء الأنوار وإطلاق صرخة: يييهوووو، فقد كنت سعيدا بالفعل لأن الله أكرمني بالعبور من القرن الذي ولدت فيه إلى قرن جديد، وهأنذا ولله الحمد، وبعد مرور 23 عاما وبضعة أشهر على دخول القرن الحادي والعشرين حي أرزق، وأتمتع بصحة استطيع أن أقول إنها جيدة رغم افتراءات بعض الأطباء، وقواي العقلية ما زالت «معقولة»، يعني «تمشي الحال» واستطيع أن أميز بين الأولاد والبنات، رغم أن الخطوط الفاصلة بين الجنسين صارت باهتة أو هلامية.
وكوني من مواليد عصر لم يعرف فيه بيتنا سوى الحطب للطبخ، والجاز الأبيض (الكيروسين) للإنارة بمصابيح قوة واحد على الألف كيلو فولت، ولا يبلغ مدى ضوئها أكثر من ثلاثة أمتار إلا ربع، ثم أجلس في هذه اللحظة في غرفة دخلتها ولمست زرا أبيض قرب بابها فصار «الليل نهارا» ثم التقطت أداة صغيرة الحجم وضغطت على زر فيها، وتخيلت نفسي - ولفحات من الهواء البارد تلفح كل جزء من جسمي - جالسا في شاطئ الريفييرا الإيطالية في ذات ربيع، وحسناوات افتراضيات يتحرشن بي وهن كاسيات عاريات وأنا أغض الطرف ولا «أعبِّرهن»!! يا ما أنت كريم يا رب، يا من ارتقيت بجعفر بن عباس، وفي رواية نوبية ابن آمنة، من عصر الفحم الحطبي إلى عصر النانو تكنولوجي.. وقبل ثوان رن جرس باب بيتي فنظرت من النافذة لأعرف من يكون الطارق حتى أرتدي أفضل ثيابي إذا كان ضيفا يخصني وحدي، أو ألزم مكاني إذا كان الضيف يخص «مدام كوري»، ولم يكن الطارق سوى طفل من الجيران جاء ليلتقط كرة سقطت داخل فناء بيتنا (هي في الحقيقة تسقط داخل فناء بيتنا نحو خمس مرات في الأسبوع بدرجة أنني اقترحت عليه أن يمارس لعب الكرة داخل بيتنا بدلا من أن يبهدلنا بفتح الباب المتكرر ويتبهدل هو بطرق الباب المتكرر)، وأثناء البصبصة لمعرفة أمر من رن الجرس، وقعت عيني على زهور ونباتات خضراء في فناء بيتي، وتذكرت البيت الذي نشأت فيه في شمال السودان، وكانت في فنائه شجرة نيم يتيمة (أتى الإنجليز بالنيم من الهند إلى السودان، ومن مميزاتها أنها تنمو بالتيمم، بمعنى أنها لا تحتاج إلى الماء إلا في الأيام الأولى لغرسها وبعدها تنشر جذورها تحت الأرض لتحصل على الماء بطريقتها الخاصة)، وأينما وجهت بصرك في بيتنا ذاك وقعت عينك إما على دجاجة أو معزة. وأتذكر جيدا أنه كانت هناك دائما بين الماعز واحدة أو أكثر تحسبها من عائلة محافظة، لأنها كانت ترتدي السوتيان (الصدرية)، ولو كانت ثقافتك ريفية مثل ثقافتي لعرفت أن الأمر لا يتعلق بالحشمة بل يعني أن المعزة لديها بيبي أو أكثر (سخلة أو عتود) وأن الغرض من السوتيان منع ذلك البيبي من شفط اللبن من ضرع أمه حتى يبقى لأهل البيت شيء منه لزوم الشاي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك