زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وصرت تلفزيونجيا
سبحان الله، فرغم أنني ظللت لسنوات طوال بعد دخولي الحياة العملية، لا أعرف كنه الكهرباء، ولا كيف ينقل الأثير الصورة والصوت عبر آلاف الأميال، إلا أن الأقدار أدخلتني سوح العمل الإعلامي، حيث وجدت العمل في التلفزيون ممتعا، وكان التحدي كبيرا في الفترة التي ولجت فيه ذلك العالم، لأن معظم البرامج كانت تبث حية، بسبب الكلفة العالية للتسجيل في أشرطة فيديو كان عرض الواحد منها خمسة سنتيمترات، وعشنا وشفنا تصوير أفلام بالفيديو بدون أي شريط، فالتلفون الجالس إلى جواري في هذه اللحظة به لقطات فيديو ذات جودة أعلى من تلك الصور التي كنا نبثها للمشاهدين مباشرة أو بعد تسجيلها، والممتع في التلفزيون والصحافة عموما عدم الرتابة، ففي كل يوم يأتيك جديد أو عليك أن تأتي بجديد، وطفش الناس من التلفزيونات الرسمية لأنها تلت وتعجن في نفس الكلام الخارِم بارِم، وهو الكلام الذي بلا أساس أو رأس، الغرض منه بلغة المصريين «أكل العقول بحلاوة»، أي الاستكراد والضحك على العقول، ولأن العيال كبرت والعقول تفتحت فقد صار بإمكانك أن تشتري جهاز استقبال بث فضائي بسعر أكثر من معقول لتستقبل مئات القنوات، أو تفتح الإنترنت فتكتشف حقائق عتمت عليها قناة بلادك الرسمية، ولماذا كل هذا التعب وهاتفك الذكي أذكى منك ومن الحكومة وينقل إليك الخبارات (جمع خبر في العامية السودانية على وزن عصيرات كجمع عصير في السعودية).
ورغم أنني التحقت بالتلفزيون السوداني في عصر ديكتاتورية جعفر نميري، إلا أن القواعد التي أرساها جيل مؤسسي التلفزيون كانت سائدة، وبالتالي كان التدخل الحكومي يقتصر على نشرات الأخبار كما هو حال جميع التلفزيونات الرسمية، حيث لا بد أن يتصدر النشرة خبر عن رأس الجمهورية، ولو كان تتعلق بعيد ميلاد ابنة سائق سيارته، وأسوأ ما في المجال الإعلامي أنه يصيب كثيرين من العاملين فيه بوهم «العظمة»، فتجدهم يمارسون العنطزة ويمشون في الشوارع والأماكن العامة وهم يحسبون أن كل الأعين تلاحقهم بالإعجاب، فتراهم يوزعون ابتسامات بلاستيكية على كل من يمر بهم، ولكن المجموعة التي كانت تعمل في التلفزيون السوداني في أواخر سبعينيات القرن الماضي كانت متجانسة ويرتبط أفرادها بمحبة صادقة، فقد كنا نتشارك الوجبات، ونعود مرضانا ونعزي كل مكلوم بفقد عزيز جماعيا، وأذكر أن زميلا فقد ابنه الوحيد في أول مساء في حادث مروري، فدخلنا إلى مكتبة الفيديو واختار احد الزملاء شريطا كان مكتوبا على غلافه الخارجي أن مدته ساعتان، فقمنا بتشغيل الشريط وخرج جميع العاملين في محطة التلفزيون لأداء واجب العزاء، ولو اقتحم شخص يعرف ابجديات العمل التلفزيوني المبنى وأذاع بيانا يلعن فيه خاش الحكومة أو أذاع البيان رقم واحد زاعما أنه استولى على السلطة لما وجد من يوقفه، ومن سخرية الأقدار أن الشريط الذي وقع عليه الاختيار حتى يغطي غيابنا لحضور مأتم والحزن الصادق يغمرنا كان لحفلة أم كلثوم في المسرح القومي في أم درمان، حيث غنت للمرة الأولى أغنية «هذه ليلتي وحلم حياتي».
وكل بضع سنوات ظلت الوجوه المألوفة لدي في التلفزيون السوداني تختفي، فقد هاجر المذيعون والفنيون، وكنت ضمن فوج المهاجرين الأوائل، ليس بسبب ضيق العيش (بمعنى شح المال)، ولكن بسبب التضييق المتواصل علي من قبل الأجهزة الأمنية، فبما أنني كنت من أرباب السوابق بمعنى أنني كنت سجينا سياسيا، وكان شقيقي الأصغر محجوب مثلي في هذا الصدد، فقد كان بيتنا يتعرض لغارات تفتيشية من حين إلى آخر، ولما جاءتني تأشيرة السفر وتذكرة الطائرة للعمل في أرامكو بالسعودية، لم أنطط من الفرح بل بكيت بحرقة لأنني سأغادر وطنا أحب كل شبر فيه وأحب أهله، وأقولها بكل صدق: لم أكن حزينا ولا خائفا يوم قادوني إلى السجن، ولكن وأنا أتوجه نحو الطائرة كنت كمن يسير في جنازة جماعية لكل أحبابه ولم أحاول إخفاء دموعي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك