العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

نحن جيل القفزات الهائلة

كما‭ ‬جميع‭ ‬القرويين،‭ ‬المحرومون‭ ‬مما‭ ‬يسمى‭ ‬بأدوات‭ ‬العصر،‭ ‬كنت‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭- ‬مثلا‭- ‬أعجب‭ ‬لمصابيح‭ ‬الإنارة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنطفئ‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬قوة‭ ‬الرياح‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬المكان،‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬التحقت‭ ‬بالتلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬معدا‭ ‬ومقدما‭ ‬لبعض‭ ‬البرامج،‭ ‬كنت‭ ‬مشدوها‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬أراه‭ ‬حولي،‭ ‬حتى‭ ‬خيوط‭ ‬الماء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنزل‭ ‬رفيعة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الدوش‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬تدهشني،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬هناك‭ ‬طفرات‭ ‬تكنولوجية‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬البديهيات‭ ‬عند‭ ‬كثيرين‭ ‬أعجز‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬كيفية‭ ‬عملها‭: ‬كيف‭ ‬أمسك‭ ‬بجهاز‭ ‬صغير‭ ‬وأضعه‭ ‬على‭ ‬أذني،‭ ‬وأتكلم‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬كراتشي‭ ‬مع‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬بوركينا‭ ‬فاسو؟‭ ‬وعندما‭ ‬كانت‭ ‬التلفونات‭ ‬بأسلاك‭ ‬كانت‭ ‬المسألة‭ ‬مفهومة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬بافتراض‭ ‬أن‭ ‬الأسلاك‭ ‬تلك‭ ‬تتولى‭ ‬توصيل‭ ‬الكلام‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الهواتف‭ ‬السلكية،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أفهم‭ ‬كيف‭ ‬يسافر‭ ‬كلامي‭ ‬من‭ ‬الخرطوم‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬وأنا‭ ‬أعلم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬أسلاك‭ ‬ممتدة‭ ‬بين‭ ‬المدينتين،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التكلم‭ ‬مستخدما‭ ‬التلفون‭ ‬بصوت‭ ‬منخفض،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬أول‭ ‬هواتف‭ ‬تعاملنا‭ ‬معها‭ ‬كانت‭ ‬مصابة‭ ‬بصمم‭ ‬جزئي،‭ ‬فكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الصراخ‭ ‬لتوصيل‭ ‬الكلام‭ ‬واستقباله‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أعجب‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬التحدث‭ ‬هاتفيا‭ ‬بصوت‭ ‬منخفض‭ ‬لا‭ ‬تسمعه‭ ‬حتى‭ ‬وأنت‭ ‬جالس‭ ‬جوار‭ ‬المتحدث،‭ ‬وهناك‭ ‬أناس‭ ‬يجيدون‭ ‬المكالمات‭ ‬الهامسة‭ ‬خوف‭ ‬‮«‬الانقفاش‮»‬،‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬من‭ ‬يتآنسون‭ ‬مع‭ ‬الحبيب‭/ ‬الحبيبة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬تكون‭ ‬فيها‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬مقيدة،‭ ‬ومعروف‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬الجنسين‭ ‬الذين‭ ‬تربطهم‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬معترف‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬معترف‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أهل‭ ‬الطرفين،‭ ‬يجرون‭ ‬مكالمات‭ ‬هامسة‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬صامتة‭ ‬في‭ ‬‮«‬أنصاص‮»‬‭ ‬الليالي،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬سرير‭ ‬الفتاة‭ - ‬مثلا‭ - ‬على‭ ‬بعد‭ ‬مترين‭ ‬من‭ ‬سرير‭ ‬أمها‭ ‬أو‭ ‬أختها،‭ ‬وتظل‭ ‬تتحدث‭ ‬مع‭ ‬حبيب‭ ‬القلب‭ ‬لساعتين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتسلل‭ ‬الكلام‭ ‬إلى‭ ‬آذان‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬الأخت،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬حدث‭ ‬التسلل‭ ‬وجاء‭ ‬التساؤل‭: ‬بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم‭. ‬مالك‭ ‬تكلمي‭ ‬روحك‭ ‬تحت‭ ‬البطانية؟‭ ‬هنا،‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تتصنع‭ ‬الفتاة‭ ‬النوم‭ ‬وتبقى‭ ‬صامتة،‭ ‬أو‭ ‬تقول‭ ‬بدورها‭: ‬بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم‭.. ‬كابوس‭ ‬فظيع‭.. ‬شكرا‭ ‬لأنك‭ ‬صحيتيني‭! ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬يعرف‭ ‬الحبيب‭ ‬على‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬أن‭ ‬ظروفا‭ ‬اضطرارية‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬كابوسا‭.‬

لنترك‭ ‬الهاتف‭ ‬في‭ ‬حاله،‭ ‬وتعالوا‭ ‬الى‭ ‬التلفزيون‭ ‬الذي‭ ‬تجده‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بيت،‭ ‬واسمحوا‭ ‬لي‭ ‬وقد‭ ‬أمضيت‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬ونيف‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬تلفزيونية‭ ‬عملاقة،‭ ‬بأن‭ ‬اعترف‭ ‬بأنني‭ ‬مش‭ ‬فاهم‭ ‬إزاي‭ ‬المذيع‭ ‬يتكلم‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ - ‬مثلا‭ - ‬وأنا‭ ‬أسمعه‭ ‬وأراه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الثانية‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬طوكيو،‭ ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬تتلخبط‭ ‬وتتخربط‭ ‬وتتشربك‭ ‬الصور‭ ‬والأصوات‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬سي‭ ‬إن‭ ‬إن‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الصادرة‭ ‬من‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬والفضائيات‭ ‬الليبية‭ ‬والبوركينا‭ ‬فاسوية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬كلها‭ ‬طائرة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الله‭ ‬الواسع‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬ممرات‭ ‬خاصة‭ ‬بكل‭ ‬قناة‭. ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬نحن‭ ‬جيل‭ ‬كان‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬إذا‭ ‬وجد‭ ‬فرصة‭ ‬للاستفراد‭ ‬بجهاز‭ ‬راديو‭ (‬وكانت‭ ‬الراديوهات‭ ‬في‭ ‬زماننا‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬مكيفات‭ ‬الهواء‭)‬،‭ ‬نتسلل‭ ‬خلفه‭ ‬وننظر‭ ‬عبر‭ ‬ثقوبه‭ ‬العديدة‭ ‬لرؤية‭ ‬القزم‭ ‬الثرثار‭ ‬الجالس‭ ‬بداخله،‭ ‬وكنا‭ ‬نعتبر‭ ‬كل‭ ‬جهاز‭ ‬نعجز‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬أسلوب‭ ‬عمله‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬‮«‬الحكومة‮»‬،‭ ‬وأيقنا‭ ‬بأن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بالسحر،‭ ‬عندما‭ ‬فكرنا‭ ‬في‭ ‬الأغاني‭ ‬وكيف‭ ‬أنها‭ ‬تتطلب‭ ‬وجود‭ ‬مطرب‭ ‬ومجموعة‭ ‬من‭ ‬العازفين‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حشرهم‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬صغير‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬قزما‭ ‬طوله‭ ‬قدم‭ ‬واحد‭ ‬وعرضه‭ ‬خمسة‭ ‬سنتيمترات‭.‬

ولهذا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬جيلنا‭ ‬محظوظ،‭ ‬فقد‭ ‬ركب‭ ‬قطارات‭ ‬البخار‭ ‬ثم‭ ‬الديزل‭ ‬ثم‭ ‬الكهرباء،‭ ‬وشهدنا‭ ‬عصر‭ ‬المراوح،‭ ‬ثم‭ ‬مكيفات‭ ‬الهواء‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬بالماء‭ ‬ثم‭ ‬بالغاز‭ ‬ثم‭ ‬الصنف‭ ‬المركزي‭ (‬السنترال‭)‬،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كنا‭ ‬نشرب‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬الزير،‭ ‬صار‭ ‬أهلنا‭ ‬يرسلوننا‭ ‬لشراء‭ ‬ربع‭ ‬لوح‭ ‬ثلج،‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بنا‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الثلج،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتشفنا‭ ‬الثلاجات،‭ ‬واعترف‭ ‬بأنني‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬كيف‭ ‬يصبح‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تضعه‭ ‬في‭ ‬الثلاجة‭ ‬باردا‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تعمل‭ ‬بحرارة‭ ‬الكهرباء‭.. ‬يا‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬كريم‭ ‬يا‭ ‬رب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا