يشهدَ العالمُ اليومَ تحولاتٍ كبيرةً في مختلفِ المجالات، بما في ذلكَ التعليم. فلمْ يعدْ المعلمُ مجردَ ناقلٍ للمعرفةِ داخلَ الفصولِ الدراسية؛ بل أصبحَ لهُ دورُ أكبرَ وأشملَ يتطلب منهُ أنْ يكونَ قائدا، ملهما، وركيزةُ أساسيةٌ في بناءِ المستقبل. ونظرا إلى أنَ التعليمَ يشهدُ تغييراتٍ متسارعةً بفعلِ الثورةِ الرقميةِ والتقدمِ التكنولوجي، أصبحَ منْ الضروريِ إعادةَ التفكيرِ في الأدوارِ التي يؤديها المعلمون. فالعالمُ يحتاجُ اليومَ إلى معلمينَ قادرينَ على التكيفِ معَ هذهِ التحولاتِ واستثمارِ الفرصِ التي توفرها التقنياتُ الحديثةُ لتحسينِ جودةِ التعليم. وفي الوقتِ نفسه، يواجهَ قطاعُ التعليمِ تحدياتٍ كبيرةً مثل تفاوتِ جودةِ التعليمِ بينَ المناطقِ المختلفة، والحاجةُ إلى تعزيزِ مهاراتِ التفكيرِ النقديِ وحلِ المشكلاتِ لدى الطلبة. وفي ظلَ هذهِ التحديات، تظهرَ فكرةَ «المعلمِ الرياديِ» كحلٍ مبتكرٍ لمواجهةِ التحدياتِ التعليميةِ الحاليةِ والمستقبلية، والارتقاءُ بعمليةِ التعليمِ لتكونَ أكثرَ ديناميكيةً ومرونة. فما هوَ مفهومُ المعلمِ الريادي؟ وكيفَ يمكنُ إعدادهُ ليكونَ عنصرا فاعلاً في قيادةِ التغييرِ داخلَ المؤسساتِ التعليميةِ البحرينية؟
المعلمُ الرياديُ هوَ المعلمُ الذي يتجاوزُ دورهُ التقليديُ ليصبحَ مبتكرا، قادرا على خلقِ الفرصِ التعليمية، وتحويلَ التحدياتِ إلى مبادراتٍ تربويةٍ ناجحة. لا يقتصرُ دورهُ على تعليمِ المحتوى الأكاديمي، بلْ يسعى إلى تطويرِ أفكارٍ جديدة، وتطبيقَ استراتيجياتٍ غيرِ تقليديةٍ تسهمُ في تحسينِ جودةِ التعليم. يملكَ المعلمُ الريادي، أيضا، روحُ المبادرةِ والقدرةِ على تحويلِ الأفكارِ إلى واقعٍ ملموس، مما يجعلهُ قائدا في مجاله.
يملكَ المعلمُ الرياديُ القدرةَ على التفكيرِ النقديِ والإبداعي، والقدرةُ على التكيفِ معَ التغيراتِ السريعةِ في التقنياتِ وأساليبِ التدريس. إنهُ معلمٌ يبني علاقاتٍ قويةً معَ طلابه، ويخلقَ بيئاتٍ تعليميةً محفزةً على الابتكار، ما يساعدُ في تمكينِ الطلابِ وتطويرِ مهاراتهمْ اللازمةِ لمواجهةِ تحدياتِ المستقبل. والمعلمُ الريادي يمكنهُ أنْ يبتكرَ طرقا جديدةً للتدريس، ويطورَ أدواتٍ تعليميةً رقمية، أوْ حتى ينشأَ مشروعاتٍ تربويةً تخدمُ مجتمعه. إنهُ ليسَ فقطْ معلما يقدمُ الدروسَ التقليدية، بلْ هوَ مبدعٌ يستفيدُ منْ الإمكاناتِ الجديدةِ لخلقِ بيئاتٍ تعليميةٍ محفزةٍ وملهمة.
لكيْ يكونَ المعلمُ رياديا، يجبَ أنْ يتحلى بمجموعةٍ منْ الخصائصِ والمهاراتِ التي تميزهُ عنْ المعلمِ التقليدي. منْ أهمَ هذهِ الخصائصِ روحَ المبادرةِ والابتكار، حيثُ لا ينتظرُ المعلمُ الرياديُ الحلولَ منْ الخارج، بلْ يسعى إلى تطويرِ أفكارٍ جديدةٍ وابتكارِ طرقِ تدريسٍ تتماشى معَ احتياجاتِ طلابهِ وظروفُ مجتمعه. ويرى في التحدياتِ فرصا للتطوير، ويبحثَ عنْ طرقٍ لتجديدِ العمليةِ التعليمية. بالإضافةِ إلى ذلك، يتسمَ المعلمُ الرياديُ بالمرونةِ والتكيف، إذْ يدركُ أنَ التعليمَ التقليديَ قدْ لا يكونُ فعالاً في ظلِ التغيراتِ التكنولوجيةِ والاجتماعيةِ المتسارعة، ويمتلكَ القدرةَ على التكيفِ معَ هذهِ التغيراتِ ويستخدمُ الأدواتِ الجديدةَ والتكنولوجيا بطريقةٍ مبتكرةٍ لخدمةِ العمليةِ التعليمية. كما أنهُ يتميزُ بالقيادةِ والتوجيه، فهوَ لا يقتصرُ على توجيهِ طلابهِ فحسب، بلْ يسعى أيضا إلى بناءِ قدراتهمْ القيادية، ويلهمهمْ ليكونوا قادةٌ ومبادرينَ في مجالاتهم، ويشجعهمْ على التفكيرِ بشكلٍ مستقلٍ وإبداعي. الأكثرَ منْ ذلك، يتميزَ المعلمُ الرياديُ بقدرتهِ على ابتكارِ وتطبيقِ أساليبَ تعليميةٍ رياديةٍ مبتكرةٍ تعتمدُ على التجربةِ والمشاريع، مما يحفزُ طلابهُ على الاستكشافِ والاكتشاف، حيثُ يتيحُ لطلابهِ الفرصةِ لتعلمِ المهاراتِ عنْ طريقِ الممارسةِ الفعلية، مما يساعدهمْ على تطويرِ مهاراتهمْ بشكلِ أكثرِ فعاليةٍ منْ الطرقِ التقليدية. وأخيرا، يهتمَ المعلمُ الرياديُ بتشجيعِ التفكيرِ النقديِ وحلِ المشكلات، فلا يكتفي بتعليمِ الحقائقِ والمعلومات، بلْ يعلمُ طلابهُ كيفيةَ تحليلِ المشكلاتِ والبحثِ عنْ حلولٍ مبتكرةٍ لها، ويشجعهمْ على التفكيرِ النقديِ والتحليلي.
والسؤالُ الذي يطرحُ نفسهُ الآن: كيفَ نعدُ معلمينَ بحرينيينَ رياديين؟
تتطلبَ صناعةَ المعلمِ الرياديِ البحرينيِ تبنيَ مؤسساتِ التعليمِ العالي المعنيةِ بإعدادِ المعلمينَ المستقبليينَ في مملكةٍ البحرينْ منهجا تعليميا تدريبيا مبتكرا يركزُ على صقلِ مهاراتِ الابتكار، والقيادة، والتفكيرُ النقديُ. يمكنَ تحقيقُ ذلكَ منْ خلالِ خطواتِ عدةٍ تساعدُ في إعدادِ المعلمينَ المستقبليينَ ليصبحوا رياديين. إحدى هذهِ الخطواتِ هيَ إنشاءُ مختبراتٍ تعليميةٍ ابتكارية، تتيحُ لهمْ تجربةُ أدواتِ وتقنياتِ جديدة، مثلٌ تصميمِ مناهجَ مبتكرةٍ باستخدامِ الذكاءِ الاصطناعيِ أوْ تطويرِ تطبيقاتٍ تعليميةٍ تفاعلية. هذهِ التجاربِ العمليةِ سوفَ تساعدهمْ في اكتسابِ المهاراتِ اللازمةِ للتفكيرِ الرياديِ في تعليمهم. إلى جانبِ ذلك، يمكنَ تقديمُ تدريبٍ متعددٍ التخصصات، حيثُ يعدْ التداخلُ بينَ التخصصاتِ المختلفةِ أحدَ العواملِ المهمةِ لتعزيزِ روحِ الريادة. يمكنَ للمعلمينَ المستقبليينَ الاستفادةَ منْ التعلمِ الذي يدمجُ بينَ التكنولوجيا، علمُ النفس، والفنونُ لتطويرِ مهاراتهمْ في التعاملِ معَ بيئاتٍ تعليميةٍ متنوعةٍ وفهمِ أعمقَ لاحتياجاتِ الطلبة.
كما يمكنُ تعليم المعلمين المستقبليينَ مبادئَ ريادةَ الأعمالِ للمعلمينَ المستقبليينَ منْ خلالِ دوراتٍ تدريبيةٍ تزودهمْ بالمهاراتِ اللازمةِ وتمكنهمْ منْ تحويلِ أفكارهمْ إلى مشاريعَ تربويةٍ ناجحة. ويعدَ التدريبُ على بناءِ مجتمعاتِ التعلمِ هوَ خطوةٌ أخرى مهمة، حيثُ يتطلبُ التعليمُ الرياديُ بناءَ مجتمعاتِ تعلمٍ قويةٍ تشجعُ على التعاونِ وتبادلِ الأفكار. فالمعلمُ الرياديُ يحتاجُ إلى تطويرِ مهاراتهِ في بناءِ هذهِ المجتمعاتِ داخلَ الفصولِ الدراسيةِ وخارجها، مما يعززُ التفكيرُ الجماعيُ والتعلمُ التعاوني. وأخيرا، تطويرُ القدرةِ على القيادة، حيثُ يجبُ أنْ يكونَ المعلمُ الرياديُ قادرا على قيادةِ الفرقِ التعليميةِ وتوجيهِ طلابهِ نحوَ تحقيقِ أهدافهم. لذلك، منْ الضروريِ تقديمُ برامجَ تدريبيةٍ في القيادةِ التربوية، حيثُ يتعلمُ المعلمونَ كيفيةَ إلهامِ وتحفيزِ الآخرينَ لتحقيقِ النجاح.
والجديرَ بالذكرِ أنَ هناكَ العديدُ منْ النماذجِ الناجحةِ حولَ العالمِ تبرزُ أهميةَ المعلمِ الرياديِ في إحداثِ تغييرٍ إيجابيٍ في العمليةِ التعليمية. في فنلندا، على سبيلِ المثال، يشجعَ المعلمونَ على تطويرِ مناهجهمْ الدراسيةِ الخاصةِ والابتكارِ في أساليبِ التدريسِ لتلبيةِ احتياجاتِ طلابهم. وقدْ أدى ذلكَ إلى تحقيقِ نتائجَ تعليميةٍ متميزةٍ جعلتْ منْ النظامِ التعليميِ الفنلنديِ أحدُ أفضلِ الأنظمةِ في العالم. وفي بعضِ الدولِ الآسيوية، مثلٌ سنغافورة وكوريا الجنوبية، يتمَ تدريبُ المعلمينَ على استخدامِ التكنولوجيا بشكلٍ مبتكرٍ في التعليم، مما ساهمَ في تحسينِ مستوى التحصيلِ الأكاديميِ وزيادةُ تفاعلِ الطلابِ معَ الموادِ الدراسية.
والجديرَ بالذكرِ أيضا أنهُ رغمَ الفرصِ الكبيرةِ التي يتيحها التعليمُ الريادي، إلا أنَ هناكَ العديدُ منْ التحدياتِ التي قدْ تواجهُ المعلمَ في هذا الإطار. منْ أبرزَ هذهِ التحدياتِ المقاومةِ للتغيير، حيثُ قدْ يواجهُ المعلمُ الرياديُ مقاومةً منْ قبلِ المؤسساتِ التعليميةِ التقليديةِ التي قدْ تكونُ غيرَ مستعدةٍ لتبني الأفكارِ الجديدة. فتغييرُ الثقافةِ المؤسسيةِ يمكنُ أنْ يكونَ صعبا، ولكنهُ ضروريٌ لتحقيقِ التحولِ في التعليم. كما أنَ التمويلَ والمواردَ تعدْ منْ العوائقِ المهمة، حيثُ يتطلبُ تطويرَ المشاريعِ التعليميةِ المبتكرةِ تمويلاً ودعما ماديا، مما قدْ يمثلُ عقبةً أمامَ بعضِ المعلمينَ الذينَ يرغبونَ في تحقيقِ أفكارهمْ الريادية. بالإضافةِ إلى ذلك، قدْ يواجهُ المعلمُ الرياديُ ضغوطا زمنيةً نتيجةِ للأعباءِ الإداريةِ والتدريسية، مما يصعبُ عليهِ إيجادُ الوقتِ الكافي لتطويرِ وتنفيذِ الأفكارِ الريادية.
يعدّ إعدادُ وتخريجُ معلمٍ رياديٍ بحرينيٍ استثمارا استراتيجيا في مستقبلِ مملكةٍ البحرين، حيثُ يتناغمُ ذلكَ ويتوافقُ معَ أهدافِ رؤيةِ البحرينِ 2030 الطموحة، التي تضعُ التعليمَ في صميمِ أولوياتها. فالمعلمُ الرياديُ ركيزةً أساسيةً لبناءِ اقتصادٍ متنوعٍ ومستدام. فمنْ خلالِ إعدادِ وتمكينِ معلمينَ رياديينَ بحرينيينَ وتزويدهمْ بأحدثِ الأدواتِ والتقنيات، يمكنَ لمملكةِ البحرينِ تحقيقَ نقلةِ نوعيةٍ في مخرجاتِ التعليم، وإعدادَ كوادرَ وطنيةٍ مؤهلةٍ قادرةٍ على المنافسةِ في سوقِ العملِ العالمي. ومنْ خلالِ هذا المنبرِ الإعلاميِ الوطني، أدعو إلى تضافرِ جهودِ جميعِ الأطرافِ المعنيةِ بالعمليةِ التعليمية، بدءا منْ صانعي السياساتِ والقرارِ وصولاً إلى أولياءِ الأمورِ والطلبةِ أنفسهم، لإعدادِ وتخريجِ معلمٍ رياديٍ بحرينيٍ متميز، لتحقيقِ رؤيةِ حضرةِ صاحبِ الجلالةِ الملكْ حمدْ بنْ عيسى آلْ خليفة عاهلِ البلادِ المعظم، حفظهُ اللهُ ورعاه، ولتنفيذَ توجيهاتِ صاحبِ السموِ الملكيِ الأميرِ سلمانْ بنْ حمدْ آلْ خليفة وليِ العهدِ رئيسَ مجلسِ الوزراء، حفظهُ الله، لبناءِ مستقبلٍ مشرقٍ للأجيالِ القادمةِ وترسيخِ مكانةِ مملكةٍ البحرينْ دولة رائدة على الساحةِ الإقليميةِ والدولية.
{ أستاذ اللغويات وزميل أكاديمية التعليم العالي البريطانية المتقدمة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك