هناك الكثير من الناس الذين ينتظرون موسم التخييم في الصحراء بفارغ الصبر للتمتع بجمال الصحراء وفطرتها السليمة العذراء، وحياتها الفطرية من نباتات وأعشاب صحراوية وحيوانات برية، إضافة إلى صفاء ظلمة الليل ومشاهدة الأجرام والكواكب السماوية، ونقاوة الهواء الجوي وهدوئه وسكينته بعيداً عن ضوضاء المدن وإزعاجها، وفساد هوائها، وتشبعها بمختلف أنواع المواد الكيميائية السامة والخطرة المسببة للأمراض والعلل الجسدية والعقلية والنفسية للإنسان.
وهناك من يحب قضاء أوقات الفراغ والإجازات برفقة ومصاحبة البحر، من المشي وممارسة الرياضة على سواحله الخلابة، والسباحة والغوص للتمتع بمنظر عالمٍ آخر تحت سطح البحر، وأنواع جديدة فريدة من نوعها من الحياة الفطرية والمخلوقات العجيبة الموجودة في قاع البحر، وهي تسبح بحمد الله وعظمته، وتعيش كلها مع بعض في نظام بيئي متناسق ومتكامل.
ومن الناس من يهوى المتنزهات والحدائق والغابات الكثيفة، فيمشي تحت ظلها الوافر، ويستنشق هواءها النقي الصافي المُعين على الحياة، والمجدد والمحيي للروح والنفس والبدن، ويتفكر في مخلوقات الله من أشجار باسقة، ونباتات وحشائش واقفة على سطح الأرض، ويشاهد في الوقت نفسه تنوع الأحياء البرية، وخاصة من أنواع الطيور الزاهية والمغنية التي تُلقي في النفس راحة وطمأنينة عجيبة لا مثيل لها.
وكل هذه البيئات، من صحراء، وبحار، وغابات تقع ضمن «الطبيعة»، أي التي خلقها الله سبحانه وتعالى ونوَّع في كائناتها النباتية والحيوانية الفطرية الغريبة، وأودع فيها كل مقومات الراحة النفسية والبدنية والعقلية التي يحتاج إليها الإنسان بين الحين والآخر لينفض عن قلبه ونفسه الغبار المتراكم والسميك من العيش في المدن الصاخبة المزعجة المليئة بالسيارات، وبضوضائها وأصواتها العالية وتلويثها وإفسادها لجودة الهواء الجوي، علاوة على أصوات الآلات والطائرات والمحركات الأخرى المزعجة التي تجعل القلب يصدأ، والنفس تموت، والعقل يقف عن العمل والإنتاج، والجسد يمرض ويسقط صريعا.
فهذه البيئات الطبيعية البِكر ودورها في إحداث تحويلات إيجابية في نفس الإنسان، استقطبت اهتمام العلماء والباحثين في علم النفس والاجتماع، إضافة إلى الأطباء بمختلف تخصصاتهم واهتماماتهم، وجعلتهم يَلِجون في مجالٍ بحثي يدرس من الناحيتين النوعية والكمية العلاقة بين العيش مع الطبيعة، وفي ظل الطبيعة وبالقرب منها ومن بيئات نظيفة ونقية وصافية خالية من الشوائب والملوثات، مع الحالة الصحية للإنسان، نفسياً، وعضوياً، وعقلياً. كما دخل العلماء في كيفية استغلال الطبيعة كأداة للعلاج لبعض الأمراض التي يعاني منها البشر، وكوصفة طبية، ودواء مجاني يُكتب لمواجهة أنواع محددة من الأسقام النفسية والعقلية التي تصيب الناس.
وهناك دراسة شاملة أُجريت على ملايين البشر حول علاقة العيش بالقرب من محيط البيئات الطبيعية والقيام بزيارتها بين الحين والآخر والأمراض العقلية لهؤلاء البشر، وهذه الدراسة نُشرت في أكتوبر 2023 في مجلة دولية مرموقة هي «اللانست: صحة الكوكب» (The Lancet) (Planetary Health) وعنوانها: «الخضرة المحيطة، والوصول إلى المساحات الخضراء المحلية، والصحة العقلية الناجمة عنها: دراسة جماعية ديناميكية طولية مدتها 10 سنوات شملت 2-3 ملايين بالغ في ويلز». فقد قام البحث بتحليل تأثيرات السكن بالقرب من البيئات الطبيعية وزيارة هذه البيئات كالمتنزهات، والغابات، والمسطحات المائية على الصحة العقلية مع الزمن للساكنين في مقاطعة ويلز البريطانية. وقد توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ عام بأن العيش في بيئة خضراء، أو في محيط بيئات طبيعية يقلل من مخاطر الإصابة بمشكلات وأمراض الصحة العقلية، أي أن هناك علاقة بين التمتع بالطبيعة والتجول في رحابها وتعزيز سلامة الصحة العقلية، فكلما زاد الإنسان قُرباً من هذه البيئات، وزاد تردده عليها، قل أكثر احتمال التعرض للأمراض العقلية. فمثل هذه البيئات، بحسب الدراسة العلمية، تخفض من الضغط والتوتر النفسي الذي يتعرض له الإنسان في البيئات الحضرية الصاخبة والملوثة، كما هي تريح البال وتنقي الناس، وتنسي الإنسان وتزيل عنه همومه ومشاكله اليومية، وعلاوة على ذلك، فإنها ترفع من مستوى ودرجة النشاط الجسدي العضلي.
ومن أجل تعميق وتعزيز هذه الحقيقة العلمية الصحية قامت جامعة أكسفورد البريطانية المشهورة والتاريخية بإصدار كتاب شامل في 29 سبتمبر 2024 تحت عنوان: «الطبيعة الجيدة: العلم الجديد لكيفية تحسين الطبيعة لصحتنا»(Good Nature: The Science of How Nature Improves Our Health). وقد ركز الكتاب على قوة الطبيعة وفاعليتها من الناحية الإيجابية على النفس البشرية، والدور الذي تلعبه البيئات الطبيعية الفطرية في تعزيز الأمن الصحي للإنسان من الناحيتين العقلية والنفسية. فعلاوة على الجمال الطبيعي والفريد من نوعه لهذه البيئات العذراء، فإن لها في الوقت نفسه بصمات إيجابية من الناحية الصحية تتركها على الفرد أثناء وبعد مكوثه وقتاً من الزمن في رحابها.
كما أن هذا الكتاب يتطرق إلى نظرية معروفة هي «استعادة الاهتمام»(Attention Restoration). فهذه النظرية تفيد بأن الإنسان خلال عمله اليومي المكتبي ينصب كل اهتمامه على القيام بالواجبات اليومية الروتينية من كتابة الرسائل والتقارير، والاجتماعات، والمقابلات، وغيرها من الأعمال التي ترهق فكر وذهن ونفس الإنسان، وتجعله مع كل يوم يفقد جزءاً من تركيزه وذاكرته ورغبته للعمل والانجاز والعطاء، ومع الوقت وثِقْل العمل وتراكمه يصاب الإنسان بأعراض الأمراض العقلية والنفسية. ولكن عندما يكون الإنسان في وسط بيئة طبيعية، فإن هذه الضغوط تزول، وحِدَة التوتر تنخفض، وينصب الاهتمام على التمتع بالطبيعية والعيش بعض الوقت في راحة وطمأنينة لا تُمثلْ ارهاقاً نفسياً للفكر والعقل، مما ينعش الجسد والروح والنفس ويعيد حيويتها ونشاطها. كذلك فإن مثل هذه الممارسات الدورية مع البيئات الطبيعية تُعدل وتغير مزاج الإنسان، وتُبعد عنه أعراض الاكتئاب والقلق، وهي في الوقت نفسه تقي الإنسان وتحميه من السقوط في شباك التوتر النفسي مستقبلاً، فهي إذن أداة وقاية وعلاج من الأمراض في آنٍ واحد، أي أنها تضرب عصفورين بحجرٍ واحد.
وعلاوة على ما سبق، فالدراسة المنشورة في 11 يونيو 2024 في مجلة (communications earth & environment)تحت عنوان: «الصحة العقلية لها علاقة إيجابية بالتنوع الحيوي في المدن الكندية»، فهي تُدعم وتؤكد استنتاجات الأبحاث السابقة. فهذه الدراسة قامت بسبر غور العلاقة بين ثراء وغنى التنوع الحيوي من طيور وأشجار مختلفة ومؤشرات الصحة العقلية في 36 مدينة كندية في الفترة من 2007 إلى 2022. وقد خلصت الدراسة إلى أن هذا التنوع في الأحياء الحيوانية من طيور وغيرها، والنباتية من أشجار وشجيرات ينعكس ايجاباً على الصحة العقلية للساكنين في هذه المناطق، وهذا بدوره ينعكس على ميزانية الدولة في كندا المُخصصة لعلاج أمراض الصحة العقلية والتي تكلف قرابة 50 بليون دولار سنوياً، فهناك 1 من كل 5 كنديين يعانون من أعراض وأمراض الصحة النفسية والعقلية، أو نحو 8.9 ملايين كندي، إضافة إلى ارتفاع نسبة الوفيات من هذه الأمراض كالانتحار.
ولذلك علاوة على الفوائد الصحية التي يكتسبها الإنسان نفسه وقاية وعلاجاً من قضاء أوقاتٍ من اليوم، أو من الشهر في بيئات طبيعية عذراء وغنية بالتنوع الحيوي، فإن الدولة نفسها تُخفض من نسبة انفاقها على علاج صحة وسلامة الشعب من الناحيتين العضوية والنفسية العقلية، مما يؤكد تخصيص وتوفير مثل هذه البيئات الطبيعية بمختلف أنواعها للمواطنين والعمل على تأهيلها وتطويرها والاهتمام بها.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك