عالم يتغير
فوزية رشيد
إلياس خوري وميزان الضمير!
{ منتصف سبتمبر رحل عن عالمنا الروائي والأديب اللبناني إلياس خوري تاركا خلفه أشهر رواياته عن فلسطين وهي رواية «باب الشمس» التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 2002 وأيضا ثلاثية «أولاد الغيتو» وغيرهما العديد من الروايات والمقالات والإشراف على ملاحق ثقافية وإدارة التحرير في عديد من الصحف اللبنانية مثل «النهار» ومجلة «مواقف» ومجلة «شؤون فلسطينية» ومجلة «الكرمل» التي كان مدير تحريرها وغيرها من الصحف ليجمع بين عمق التجسيد الروائي ووهج العقل المثقف وهموم الكتابة الصحفية في مقالات مشحونة بالوعي الوطني والإنساني والانتماء القومي والحس الأكاديمي كأستاذ في الجامعة اللبنانية والجامعة الأمريكية ببيروت.
{ وفي زمن داخل في فوضى ضياع فلسطين في عام مولده 1948 إلى فوضى الحرب الأهلية منتصف السبعينيات وهو المسيحي الأرثوذكسي حاول بكتاباته ووعيه تجاوز خطاب الكراهية بين الطوائف وبعضها وبين عدد منها والفلسطينيين وهو البعض الذي قام بأعمال إجرامية تجاه الوجود الفلسطيني في بيروت في ظل الاجتياح الإسرائيلي حتى اضطر قادتها وعلى رأسهم ياسر عرفات إلى الخروج منها إلى تونس 1982 تحت وطأة الاجتياح لتتشظى رحلة اللجوء على مستوى القادة بين عواصم مختلفة! ولكأنها الرحلة التي تدق ناقوس خطر قادم لمحاولات تذويب القضية الفلسطينية وتصفية العديد من قادتها وإدخالها في دهاليز الاستقطابات والانقسام بعد ذلك وجنون الاستحواذ الصهيوني على الأرض العربية في فلسطين كلها! لتصل إلى الإبادة وحربها الضارية اليوم وإلى صمود الشعب الفلسطيني في استفراده بمقاومة أشرس الاحتلالات الاستيطانية وأخطرها ولتمتد الأطماع التوسعية إلى لبنان مجددا!
{ كان إلياس خوري أحد أكثر المرتبطين بقضية فلسطين وربما رحلته الخاصة مع محمود درويش الذي كان ملتحما به أشد التحام قد جعلت من صداقة الروح بوحا خاصا للوعي والحس القومي المرتبط بالقضية الفلسطينية! وحيث الجدلية تنجدل بين أشعار درويش وشخوص روايات خوري وتتكاثف مع مراحل ومآزق القضية الفلسطينية! ليرتبط بها ارتباطا روحيا وعقليا خاصا دق به باب الشمس كرواية! وارتحل مع محمود درويش في تجلياته الشعرية كأبرز شاعر للمقاومة وشعرائها!
{ القضية الفلسطينية هي منذ بدأت وإلى الآن ميزان الضمير الإنساني الباحث عن العدل والحرية والكرامة الإنسانية في رحلة التغريبة الفلسطينية التي أدخلت في وهجها وفي عتمة العالم المحيط بها، كل مثقف يبحث في روحه عن ذلك الشغف الإنساني الباحث عن القيم الإنسانية وعدالة الأرض في عالم مستعبد! استمر في عبوديته الدولية على مدى ما يقارب الثمانين عاما دون أن يستطيع تحرير نفسه من سطوة وتسلط النخبة الشيطانية التي ظلت تنسج خيوط الاستعباد العالمي لها! لتبقى فلسطين وحدها تواجه ركام الخراب العالمي والمأزق الإنساني في العالم! ولذلك لم يكن مستغربا أن يكون إلياس خوري مرتبطا كل ذلك الارتباط بأكثر القضايا الوطنية والقومية اشتعالا وتجسيدا لرحلة البحث عن الحرية والتخلص من الاحتلال الصهيوني الذي فاق كل الاحتلالات وحشية! ولخص في ذاته كاحتلال كل ظلاميات العصور القديمة والحديثة معا!
{ في عام 2004 كنت والشاعرة حمدة خميس بين المدعوين لمعرض الكتاب في فرانكفورت وهناك التقيت الكثير من النخب الثقافية والأدبية والفكرية العربية وبين هؤلاء الذين جمعتني معهم لقاءات مشتعلة بالهم القومي العربي على خلفية الهم الفلسطيني محمود درويش وأحيانا برفقة إلياس خوري الذي كان ما إن ينشغل عنه درويش بعمق أو طول حوار مهم بعيدا عنه حتى يتململ إلياس خوري ليحاول شده إليه، وكأنه يعاني لحظتها من فراغ هائل في روحه ما إن ينشغل درويش عنه وإن قليلا! لهذا قيل إنه توأم روحه؟! ربما! وكنت بدوري أشعر بالانزعاج من ذلك الاستحواذ على فرصة نادرة تجمعني بالحوار وتبادل الرأي مع محمود درويش وقد تآلفنا في الهم القومي الطاحن بعد اختلاف بيننا بدأ في بغداد في النصف الثاني من الثمانينيات وكتب عنه درويش في مجلة اليوم السابع وانتهى الخلاف بعد ذلك في القاهرة على يد الشاعر العراقي سعدي يوسف في مؤتمر للرواية العربية! ولربما تسنح الفرصة يوما لأكتب عن محطات في الحياة في أوراق الذكريات والذاكرة التي حفلت أغصانها بالكثير!
{ ربما لو أتاحت الفرص لقاءات أخرى مع إلياس خوري غير تلك التي عرفته فيها في فرانكفورت لكنا تعارفنا أكثر على الجامع المشترك تجاه القضية الفلسطينية التي ارتحلت فيها منذ عهدي الأول بالكتابة وحتى الآن كقمة للهموم القومية ولأن الحفاظ على الالتصاق بها هو حفاظ على الروح الباحثة والتواقة إلى الحرية والعدالة والقيم الإنسانية، ولأنها البوصلة والميزان الذي وضع العالم كله اليوم ليزن نفسه فيه وبه ذرات ما يحمله من توق وضمير إنساني حي تدرج بالشعوب حتى اشتعلت خلاصته فيما تقوم به شعوب غربية اليوم تريد أن تتحرر من قبضة الظلامية الدولية فوجدت في الشعب الفلسطيني منارتها للوصول إلى ذلك وهي تتظاهر نصرة لفلسطين وغزة!
إلياس خوري برحيله رحل عن هذا العالم وبقي في الوقت ذاته بكل تجليات الوعي المرتبط رواية ومقالا بفلسطين وقضيتها وشعبها المتفرد في مقاومة أعتى احتلال وعتمة الظلم! لروحه السلام والرحمة والنور.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك