في يوم السابع من شهر أكتوبر، كان من المرجح أن يتم تجاهل أعمال الإبادة الجماعية المستمرة في غزة والتفجيرات الضخمة في لبنان من قبل المسؤولين ووسائل الإعلام الأمريكية أثناء إحيائهم ذكرى هجوم حماس على إسرائيل.
أما ما تجاهله المسؤولون ووسائل الإعلام الأمريكية فعليا فهو أن تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يبدأ في السابع من أكتوبر 2023، كما أن المعاناة لم تنته في ذلك اليوم.
لا شك أن يوم السابع من شهر أكتوبر 2023 كان يومًا فارقا، لكن التاريخ -وتحديدا تاريخ الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين - لم يبدأ في ذلك اليوم، ومن المؤكد أن هذا التاريخ لم ينته عند هذا الحد أيضًا.
ومنذ ذلك الحين، ومما نعرفه على وجه اليقين، قُتل أكثر من 41 ألف فلسطيني، وجُرح 97 ألفًا، وما يزيد على 20 ألفًا في عداد المفقودين. لقد تم القضاء على عائلات فلسطينية بأكملها، وتم تسوية أحياء بالأرض، وتم تدمير معظم المساكن في غزة، بالإضافة إلى المدارس والمستشفيات والبنية التحتية.
كذلك، تم فرض قيود جائرة على دخول المساعدات، مما أدى إلى وفيات بسبب المرض والجوع وسوء التغذية. وقد تفشت جميع أنواع الاضطرابات النفسية الناتجة عن الصدمات الطويلة.
إن ما فعلته إسرائيل، كما تقول لنا الوكالات الدولية المحترمة، هو إبادة جماعية، أي تدمير مجتمع ما وثقافته ورفاهيته، وها هو الدمار يمتد ليلتهم لبنان.
وحين يحيي الزعماء السياسيون ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية ذكرى هجمات السابع من أكتوبر 2023، فإن ما حدث بعد ذلك اليوم لم يكن في الحسبان. ومع الأسف فإن ما بدأ في 8 أكتوبر 2023 وما زال مستمرًا حتى اليوم سيتم تجاهله.
والأسوأ من ذلك أن أولئك الذين يجرؤون على الحديث عن المأساة التي تلت ذلك سيتم إدانتهم واتهامهم بعدم الاكتراث لمعاناة اليهود. سيكون الأمر كما لو أن صرخات الضحايا الإسرائيليين ستطغى على صرخات الفلسطينيين.
سيتم إعطاء الأولوية لألم شخص ما على ألم شخص آخر. وهذا أمر أصبح العرب يتوقعونه: فهم لا يُنظر إليهم على أنهم بشر متساوون مع بقية أبناء البشر.
هذا الكلام لا يشكل مطية للتركيز على الفلسطينيين كضحية، بقدر بل هو مجرد تذكير بأن حياة الفلسطينيين مهمة بقدر حياة الإسرائيليين وأن التاريخ لم يبدأ أو ينتهي في السابع من أكتوبر 2023.
لكن هذه ليست القصة التي تم سردها في ذلك اليوم، سواء في وسائل الإعلام الأمريكية أو في الكونجرس أو في البيت الأبيض. وهذه ليست الطريقة التي ستدخل بها هذه القصة إلى كتب تاريخنا.
من الملاحظ في كثير من الأحيان أن التاريخ، كما يتم تدريسه في المجتمع، تكتبه المجموعة المهيمنة. فالقصة تُروى من وجهة نظر الشخص الذي يرويها. إنها الطريقة التي يرون بها الأمر من حيث يقفون، ويتم تحديد معناه من خلال المكان الذي يختارونه لبدء روايتهم.
عندما كنت في المدرسة، بدأ التاريخ الأمريكي الذي تعلمناه مع «اكتشاف» الرحالة كريستوف كولومبوس لما أطلق عليه «العالم الجديد». تم تصوير السكان الأصليين «الهنود» على أنهم متوحشون، وتم تقديم «معادلة الثلاثة أخماس» كإجابة منطقية لكيفية إحصاء العبيد في التعداد السكاني.
إن التاريخ العالمي الذي درسناه كان من وجهة نظر مركزية أوروبية. لقد كان الإسلام «تهديداً همجياً»؛ وكانت الصين أرضا هامشية «اكتشفها ماركو بولو» فيما كان جنكيز خان لصًا، كما قيل لنا إن البريطانيين والفرنسيين جلبوا الحضارة إلى الشعوب البدائية في الجنوب والشرق.
وفي الحقيقة، كان «العالم الجديد» مأهولًا بالحضارات القديمة التي بنت ثقافات رائعة، وكانت العبودية مؤسسة همجية، وقد علمت الحضارة الإسلامية الغرب الكثير، وكان جنكيز خان أحد أعظم ناقلي الثقافة من الشرق الأقصى إلى الشرق. لقد كان الغرب، والاستعمار شرًا أخضع واستغل وشوه التنمية الاقتصادية والسياسية للدول التي تم احتلالها.
لكن هذه ليست القصة التي تم تدريسها، لأن أولئك الذين كتبوا التاريخ الذي تعلمناه في المدرسة بدأوا روايتهم عام 1492 ورواها من وجهة نظر الأمريكيين أو الأوروبيين الذين ينظرون إلى العالم ويسيطرون عليه.
وبالعودة إلى أحداث 7 أكتوبر2023، لدى الفلسطينيين قصة مأساوية يروونها عن السلب والتهجير والقمع المروع الذي بدأ قبل قرن من الزمان. ولكن هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن القصة الفلسطينية ليست هي السائدة. فالمأساة التي لا يزال يعيشها الفلسطينيون غير مفهومة أو أنها مرفوضة تمامًا في الولايات المتحدة الأمريكية.
في منتصف شهر أكتوبر 2023، التقيت بمسؤول كبير في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. وبعد أن تحدث بحماس عن أحداث يوم السابع من أكتوبر والصدمة التي أحدثتها لليهود في كل مكان، قلت له إنني أتفهم ذلك.
لقد أخبرني عمي، وهو جندي أمريكي في الحرب العالمية الثانية، عما رآه عند دخول معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازية. ساعدتني تلك الحكايات التي حدثني عنها وكذلك مذكرات آن فرانك، التي قرأتها في المدرسة الثانوية، على فهم الصدمة اليهودية وإدراك مخاوفهم.
ومع ذلك، فقد نبهت هذا المسؤول الأمريكي الكبير أن هناك أشخاصًا آخرين لديهم أيضًا تاريخ من المعاناة، وأن ما كان الفلسطينيون يشاهدونه يثير فيهم المعاناة الناتجة عن النكبة.
لقد أكدت لهذا المسؤول الرفيع أيضا أنه يجب علينا أن نتفهم معاناة كلا الشعبين، غير أنه رد بغضب، ورفض ملاحظتي قائلاً: «إنها تفوح منها رائحة «ماذا بعد؟».
لقد ذهلت وانتابني الغضب. لقد كان من الطبيعي بالنسبة إلى الإسرائيليين أن يشعروا بأن معاناتهم فقط هي التي تهم وأن أي شخص يحاول صرف الانتباه عن وجهة النظر الأحادية الجانب إما أنه يستخف بمعاناة اليهود أو أنه يدافع عن أولئك الذين يتسببون فيه. ومن الأمور الأخرى تمامًا أن يتبنى المسؤولون الأمريكيون والشخصيات الإعلامية الكبرى هذا الرأي.
إن الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية يتغير مع زيادة فهم الأمريكيين للقصة الفلسطينية وتعاطفهم مع آلامهم. لكن هذه النظرة الأوسع لم تترسخ في الأوساط السياسية والإعلامية الرسمية.
إنهم ما زالوا حتى اليوم يرون التاريخ من خلال عيون طرف واحد فقط. وبالنسبة إليهم، لا يهم سوى حياة ومعاناة الإسرائيليين، وقصة المأساة الحالية بدأت وانتهت في السابع من شهر أكتوبر.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك