العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الذوق في الطرقات

نسميه‭ ‬بالذوق،‭ ‬هو‭ ‬التهذيب‭ ‬والاستعداد‭ ‬لمجاملة‭ ‬الآخرين‭ ‬ومخاطبة‭ ‬الغير‭ ‬بما‭ ‬يحبون،‭ ‬والذوق‭ ‬ليس‭ ‬موهبة‭ ‬بل‭ ‬عادة‭ ‬مكتسبة‭ ‬‮«‬من‭ ‬البيت‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬أهلك‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يبرمجونك‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬مهذبا‭ ‬خلوقا‭ ‬متسامحا‭ ‬وصاحب‭ ‬مروءة،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬فهم‭ ‬من‭ ‬قد‭ ‬ينشئونك‭ ‬فظا‭ ‬جِلْفا‭ ‬غليظ‭ ‬القلب،‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬محصنين‭ ‬بـ«قل‭ ‬أعوذ‭ ‬برب‭ ‬الفلق‮»‬‭.‬

مناسبة‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬هي‭ ‬أنني‭ ‬ألمس‭ ‬في‭ ‬كثيرين‭ ‬منا‭ ‬جلافة‭ ‬و«عدم‭ ‬ذوق‮»‬‭ ‬عند‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬خصوصا،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬زرت‭ ‬لندن‭ ‬خلال‭ ‬الخمس‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭ ‬الماضية‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬مرات،‭ ‬ووجدت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬معدلات‭ ‬الجريمة‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬مطردة،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنعني‭ ‬من‭ ‬الانبهار‭ ‬بأشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يريح‭ ‬أعصابي‭ ‬طوال‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬‮«‬الدقة‭ ‬في‭ ‬المواعيد‮»‬،‭ ‬القطارات‭ ‬والناس‭ ‬والحافلات‭ ‬وبرامج‭ ‬التلفزيون‭ ‬كلها‭ ‬تتقيد‭ ‬بمواعيد‭ ‬معلنة‭ ‬أو‭ ‬متفق‭ ‬عليها،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬يبط‭ ‬كبدي‭ ‬ويفقع‭ ‬مرارتي‭ ‬مثل‭ ‬استخفافنا‭ ‬نحن‭ ‬أهل‭ ‬‮«‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‮»‬‭ ‬بالمواعيد،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬تلفزيوناتنا‭ ‬لا‭ ‬تحترم‭ ‬مشاهديها‭ ‬وقد‭ ‬تبث‭ ‬برنامجا‭ ‬كان‭ ‬يبغي‭ ‬أن‭ ‬يبث‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬مساء‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الليل،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬صديقا‭ ‬لي‭ ‬بريطانيا‭ ‬عمل‭ ‬استشاريا‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬عربية‭ ‬يفترض‭ ‬انها‭ ‬محترمة،‭ ‬براتب‭ ‬مهول،‭ ‬ولكنه‭ ‬فاجأني‭ ‬بعد‭ ‬شهور‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬التحاقه‭ ‬بها‭ ‬بأنه‭ ‬قدم‭ ‬استقالته‭ ‬وسيبحث‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬اي‭ ‬مجال‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬التلفزيون‭ ‬فسألته‭: ‬واي؟‭ ‬فقال‭: ‬هل‭ ‬تتخيل‭ ‬أن‭ ‬قناة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬تعجز‭ ‬عن‭ ‬بث‭ ‬نشرة‭ ‬أخبار‭ ‬في‭ ‬موعدها‭ ‬المحدد؟‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬أتخيل‭ ‬ونُص،‭ ‬لأنه‭ ‬ليست‭ ‬لنشراتنا‭ ‬الإخبارية‭ ‬قيمة،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يتابعها‭ ‬ولو‭ ‬تابعها‭ ‬أحد‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭ ‬ما‭ ‬يجيء‭ ‬فيها‭.‬

لن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬الاختراعات‭ ‬والاكتشافات‭ ‬التي‭ ‬أسهم‭ ‬بها‭ ‬البريطانيون‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬مجرى‭ ‬التاريخ‭ ‬وحياة‭ ‬البشر،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬لمسات‭ ‬بسيطة‭ ‬نفتقدها‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬فمدينة‭ ‬لندن‭ ‬مثلا‭ ‬تتميز‭ ‬بضيق‭ ‬الشوارع‭ ‬الداخلية،‭ ‬فتجد‭ ‬شارعا‭ ‬عرضه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمتار‭ ‬مخصص‭ ‬لسير‭ ‬السيارات‭ ‬في‭ ‬اتجاهين‭ ‬متعاكسين،‭ ‬ثم‭ ‬تجد‭ ‬على‭ ‬جانبيه‭ ‬سيارات‭ ‬واقفة،‭ ‬وتقود‭ ‬سيارتك‭ ‬في‭ ‬احد‭ ‬تلك‭ ‬الشوارع‭ ‬وفجأة‭ ‬تظهر‭ ‬من‭ ‬الاتجاه‭ ‬المقابل‭ ‬سيارة‭ ‬أخرى،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬توسل‭ ‬منك‭ ‬يحشر‭ ‬سيارته‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬ضيقة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬لتمر‭ ‬أنت‭ ‬ويتحرك‭ ‬هو‭ ‬بعدها،‭ ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬فإن‭ ‬حركة‭ ‬المرور‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬تكون‭ ‬سلسة‭ ‬ومنسابة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬محكومة‭ ‬بقوانين‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬سائقي‭ ‬السيارات‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬بـ«الذوق‮»‬،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬مزنوق،‭ ‬مثل‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬بسيارته‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬فرعي‭ ‬الى‭ ‬شارع‭ ‬رئيسي،‭ ‬فإذا‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬كهذا‭ ‬فستجد‭ ‬أن‭ ‬سائق‭ ‬أول‭ ‬سيارة‭ ‬غير‭ ‬مندفعة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الرئيسي‭ ‬يتوقف‭ ‬ويومئ‭ ‬اليك‭ ‬بالدخول،‭ ‬أما‭ ‬عندنا‭ ‬فالمسألة‭ ‬‮«‬مرجلة‭ ‬وهرجلة‭ ‬وبرجلة‮»‬،‭ ‬من‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬جانبي‭ ‬يقفز‭ ‬بسيارته‭ ‬الى‭ ‬الشارع‭ ‬الرئيسي‭ ‬ولسان‭ ‬حاله‭ ‬يقول‭: ‬لو‭ ‬أنت‭ ‬راجل‭/ ‬رجّال‭ ‬اصدمني،‭ ‬ولو‭ ‬توقفت‭ ‬بسيارتك‭ ‬عند‭ ‬مدخل‭ ‬شارع‭ ‬رئيسي،‭ ‬فلا‭ ‬أمل‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬دخوله‭ ‬سالما،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬وقع‭ ‬حادث‭ ‬يعطل‭ ‬المرور‭ ‬في‭ ‬الحارة‭ ‬اليمنى‭ ‬من‭ ‬الشارع،‭ ‬وتقود‭ ‬سيارتك‭ ‬بالسرعة‭ ‬القصوى‭ ‬المسموح‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬يسار‭ ‬الشارع‭ ‬كما‭ ‬تقضي‭ ‬قوانين‭ ‬المرور،‭ ‬ولكن‭ ‬تلتصق‭ ‬بك‭ ‬سيارة‭ ‬من‭ ‬الخلف،‭ ‬ويرسل‭ ‬سائقها‭ ‬اشارات‭ ‬ضوئية‭ ‬ويضغط‭ ‬على‭ ‬البوق‭ ‬وكأنك‭ ‬‮«‬ماشي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬أبوه‮»‬،‭ ‬ولكي‭ ‬تسمح‭ ‬له‭ ‬بتخطيك‭ ‬وتجاوزك،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬السرعة‭ ‬المسموح‭ ‬بها،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬تمسكت‭ ‬بالقانون‭ ‬وتجاهلت‭ ‬غمزاته‭ ‬وصرخات‭ ‬بوقه،‭ ‬فإنه‭ ‬يتجاوزك‭ ‬باليمين‭ ‬وقد‭ ‬يوجه‭ ‬لك‭ (‬أنت‭ ‬وحظك‭): ‬شتائم‭ ‬أو‭ ‬بصقة‭ ‬أو‭ ‬إيماءة‭ ‬بذيئة‭ ‬وقد‭ ‬يرعبك‭ ‬بالسير‭ ‬أمامك‭ ‬ثم‭ ‬الوقوف‭ ‬المفاجئ،‭ ‬فإما‭ ‬صدمته‭ ‬من‭ ‬الخلف،‭ ‬أو‭ ‬نجوت‭ ‬من‭ ‬الحادث‭ ‬بأعجوبة‭ ‬عند‭ ‬انحراف‭ ‬سيارتك‭ ‬لتفاديه،‭ ‬أو‭ ‬تركت‭ ‬له‭ ‬الشارع‭ ‬وغيرت‭ ‬وجهتك،‭ ‬وأقول‭ ‬بضمير‭ ‬مستريح‭ ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أمارس‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعالي‭ ‬على‭ ‬آدمي‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬جنسيته‭ ‬أو‭ ‬ديانته‭ ‬أو‭ ‬وضعه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أو‭ ‬الوظيفي،‭ ‬ولكن‭ ‬وبعد‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬لمدد‭ ‬متفاوتة‭ ‬سنين‭ ‬عددا،‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬‮«‬يتفوق‮»‬‭ ‬على‭ ‬السائق‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬قلة‭ ‬الذوق‭ ‬المروري،‭ ‬إلا‭ ‬السائق‭ ‬الهندي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا