لم يكن أحد يتوقع أن يكون عام واحد كافيا لإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة باعتبارها القضية الأكثر إلحاحا في العالم، وأن الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم سوف يتجمعون مرة أخرى من أجل المطالبة بالحرية للشعب الفلسطيني.
لقد شهد العام الماضي تفاقم أعمال الإبادة الجماعية التي ظلت ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وأعمال عنف غير مسبوقة في الضفة الغربية، ولكنه شهد أيضاً صفحات مجيدة من الصمود الفلسطيني.
وفي الحقيقة، وعلى مدار السنة الماضية منذ بداية عملية طوفان الأقصى لم يكن اتساع نطاق الحرب الإسرائيلية هو الذي تحدى ما بدا ذات يوم وكأنه نتيجة محتومة للنضال الفلسطيني، بل إن ما تحدى ذلك هو درجة الصمود الفلسطيني.
رغم كل تلك الأحداث التي شهدتها الساحة الفلسطينية على مدار سنة كاملة، والتي أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، فقد تبين أن الفصل الأخير عن فلسطين لم يكن جاهزا بعد للكتابة، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لن يكون هو من يكتبه.
لقد كشفت الحرب المستمرة حدود الآلة العسكرية الإسرائيلية. إن المسار الذي اتخذه تاريخ العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين الخاضعين للاحتلال كان مبنياً على العنف الوحشي الإسرائيلي والصمت الدولي الذي يصم الآذان. وكانت إسرائيل إلى حد كبير هي التي حددت توقيت الحرب وأهدافها. ويبدو أن أعداءها، حتى وقت قريب، ليس لهم أي رأي في الأمر.
ومع ذلك، لم يعد هذا هو الحال في الوقت الراهن بعد عام كامل من الانتهاكات الصارخة وأعمال الإبادة. إن جرائم الحرب الإسرائيلية تقابل الآن بوحدة فلسطينية وتضامن عربي وإسلامي ودولي، وببوادر مبكرة، وإن كانت خطيرة، للمساءلة القانونية أيضا.
ذلك بالكاد ما كان نتنياهو يأمل في تحقيقه؛ وقبل أيام قليلة من بدء الحرب، وقف هو نفسه في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة حاملاً خريطة «الشرق الأوسط الجديد»، وهي الخريطة التي محت فلسطين والفلسطينيين بالكامل.
هذا ما قاله يومها رئيس الوزراء الإسرائيلي: «يجب ألا نعطي الفلسطينيين حق النقض على (..) السلام»، لأن «الفلسطينيين لا يشكلون سوى 2% من العالم العربي». لم تدم غطرسته طويلاً، لأن لحظة الانتصار المفترضة تلك لم تدم طويلاً.
يشعر بنيامين نتنياهو المحاصر الآن بالقلق في المقام الأول بشأن بقائه السياسي. فهو يقوم بتوسيع جبهة الحرب هرباً من إذلال جيشه في غزة، ويشعر بالرعب من احتمال صدور مذكرة اعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
وبينما تواصل محكمة العدل الدولية النظر في ملف يتسع باستمرار، تتهم فيه إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية متعمدة في قطاع غزة، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 18 سبتمبر الماضي، أنه يجب على إسرائيل إنهاء احتلالها غير القانوني لفلسطين في غضون عام من صدور قرارها في هذا الشأن.
لا بد أنه من المخيب للآمال تمامًا أن يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -الذي عمل بلا كلل لتطبيع احتلاله لفلسطين- برفض دولي كامل لكل مخططاته الاستعمارية والاستيطانية.
إن الرأي الاستشاري الذي اتخذته محكمة العدل الدولية، يوم 19 يوليو، والذي أعلنت من خلاله أن «وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني» كان بمثابة ضربة أخرى لسلطات تل أبيب، التي فشلت، على الرغم من الدعم الأمريكي غير المحدود، في تغيير الإجماع الدولي على عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وبالإضافة إلى أعمال الإبادة والعنف الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه، فقد تم تهميش الشعب الفلسطيني كلاعب سياسي أساسي. إن صمود الفلسطينيين في غزة، الذين تحملوا عاماً من القتل الجماعي والمجاعة المتعمدة والتدمير الشامل لكل جوانب الحياة، يساعد في إعادة تأكيد الأهمية السياسية لشعب مهمش منذ فترة طويلة.
ولا شك أن هذا التحول يعد أساسيا لأنه يتعارض مع كل ما حاول بنيامين نتنياهو تحقيقه. في السنوات التي سبقت الحرب الراهنة، بدا أن إسرائيل تكتب الفصل الأخير من مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين. فقد أخضعت الضفة الغربية، وأكملت حصارها على غزة، وكانت مستعدة لضم جزء كبير من الضفة الغربية.
كذلك أصبح قطاع غزة وسكانه لا يحظيان بأي اهتمام يذكر من إسرائيل، حيث كان أي نقاش حولها مقتصراً على الحصار الإسرائيلي المحكم وما نتج عنه من أزمة إنسانية، وإن لم تكن سياسية.
وبينما ناشد الفلسطينيون في غزة العالم مرارا وتكرارا للضغط على إسرائيل لإنهاء الحصار الذي طال أمده، والذي فرض بشكل جدي في عام 2007، واصلت تل أبيب إدارة سياساتها في القطاع وفقًا للمنطق السيئ السمعة للمسؤول الإسرائيلي الكبير السابق، دوف فايسغلاس، الذي أوضح أن الأساس المنطقي من الحصار هو «إخضاع الفلسطينيين لنظام غذائي، وليس جعلهم يموتون من الجوع».
ولكن بعد مرور عام على الحرب، أصبح الفلسطينيون، بفضل صمودهم، محور أي نقاش جدي حول مستقبل سلمي في منطقة الشرق الأوسط. لقد أدت شجاعتهم الجماعية وصمودهم إلى تحييد قدرة الآلة العسكرية الإسرائيلية على انتزاع أي نتائج سياسية من خلال العنف.
صحيح أن عدد القتلى والمفقودين والجرحى في قطاع غزة قد تجاوز بالفعل 150 ألف شخص، وصحيح أيضا أن قطاع غزة، الذي يعاني من استشراء الفقر المدقع وصعوبة ظروف العيش منذ البداية جراء الحصار، إلا أن القطاع، الذي يعد أكبر سجين مفتوح في العالم، قد أصبح في حالة خراب كامل.
لقد تم تدمير كل مسجد أو كنيسة أو مستشفى أو تعرض لأضرار جسيمة. لقد تم تدمير معظم البنية التحتية التعليمية في المنطقة. ومع ذلك، لم تحقق إسرائيل أيًا من أهدافها الاستراتيجية، التي يجمعها في نهاية المطاف هدف واحد، وهو إسكات المسعى الفلسطيني من أجل الحرية إلى الأبد.
وعلى الرغم من الألم والخسارة التي لا تصدق، هناك الآن إرادة قوية توحد الفلسطينيين حول قضيتهم، والعرب والعالم كله حول فلسطين. وستكون لذلك عواقب ستستمر سنوات عديدة قادمة، بعد فترة طويلة من رحيل نتنياهو وأمثاله من المتطرفين.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك