النحر الجماعي، أو الإبادة الجماعية لشعوب أخرى، هو مفهوم معقد ومؤلم يعكس بعض الصراعات الدامية الفادحة التي يشهدها العالم على مر التاريخ، ويحمل في طياته بذور الانتحار بالنسبة إلى الجماعات أو الدول ذات النزعة الدموية التي تنفذ هذه الإبادة، سعياً وراء محو جماعة أو شعب آخر من الوجود، (لأسباب متعددة تتراوح بين النزاعات الدينية والعرقية، وبين الطموحات السياسية والاقتصادية.. إلخ). وتبرز قضية «إسرائيل» والفلسطينيين كمثال حي على هذا المفهوم، وعلى أن السياسات التي تستهدف قمع شعبٍ آخر؛ تحمل في طياتها –في الغالب- تهديدًا وجوديًا للمجتمع القامع ذاته.
«إسرائيل»، التي نشأت على أرض مأهولة بمواطنيها الفلسطينيين، اتبعت، في استعمارها، (نهج الاستيطان الإحلالي) نهجًا ثابتاً للاستيلاء على الأراضي وطرد السكان الأصليين.
وكانت، ولا تزال تحاول، بشكلٍ منهجي، طرد السكان الأصليين أو إخضاعهم بعديد صنوف السيطرة والهيمنة والإبادة (بالجملة أو بالتقسيط!)، مستخدمة وسائل متنوعة من ضمنها: مختلف أنواع القوة العسكرية والسيطرة على الاقتصاد والمجال الثقافي.. إلخ. وهذه الأخيرة هي أفعال يمكن أن توصف بالإبادة الثقافية، إذ إن أعمال الإبادة لم تقتصر على الجانب العسكري، بل امتدت إلى محاولة محو الهوية الفلسطينية والتمسك بروايات (جوهرها في الحقيقة خزعبلات) تاريخية تبرر هذه المقارفات/الجرائم.
وفي أعين نخبة من المفكرين والسياسيين والعسكريين الإسرائيليين، فإن سياسة الإبادة هذه تحمل بذور الانتحار الذاتي، لأنها تقوض الكثير من شرعية «إسرائيل» وسمعتها على المستوى الدولي، وأدت وتؤدي إلى رفض عالمي لسياساتها التي يُنظر إليها على أنها غير أخلاقية ومارقة، علاوة على أنها تطلق (عند) القوى المستهدفة بالإبادة (طوفانا) من المقاومة المستحقة لحماية نفسها وحقوقها.
وفي سعي «إسرائيل» إلى تهشيم الوجود الفلسطيني، نجدها تدفع بالمجتمع الإسرائيلي نحو أتون العزلة؛ سواء من خلال فقدان الدعم الدولي، أو من خلال الصراعات الداخلية بين الفئات المختلفة داخل الكيان الصهيوني الذي يعاني من تصدعات كنتيجة حتمية لتداعيات هذه السياسة العدوانية. إن الاستمرار في هذه السياسات يزيد من العداء والتوتر، ويجعل من «الحلول السلمية» أمراً بعيد المنال، مما يهدد مستقبل الدولة الإسرائيلية الباغية ويؤذي مستقبل المنطقة برمتها.
على الجانب الآخر، يمكن استعراض استثناءات حققت فيها سياسات الاستعمار «الاستيطاني» نجاحًا مثلما حدث في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وهذه الأخيرة تمكنت من تنفيذ سياسات الإبادة والتهميش بحق السكان الأصليين، وفرض ثقافتها وقيمها على تلك الأراضي. ورغم أن هذه الدول تعتبر اليوم من أكثر الدول «استقرارًا» و«تقدمًا» في العالم، فإن هذا «النجاح» الذي بني على تاريخ من الظلم المستند إلى العنف والإبادة بحق الشعوب الأصلية؛ يظل يحمل في طياته إرثًا عنيفاً في عنصريته سيعاني منه الطغاة أنفسهم (على المدى الطويل).
من الواضح أن سياسة النحر الجماعي أو نهج الإبادة الجماعية، ورغم تحقيقها نجاحات تكتيكية قصيرة الأمد؛ إلا أنها تحمل في طياتها تداعيات بعيدة المدى؛ تهدد مستقبل المجتمع الذي يختار هذا النهج، فـــ «النحر» يحمل بذور «الانتحار»، ذلك أن محاولات إبادة شعوب أخرى تؤدي في النهاية إلى زعزعة استقرار المجتمع القامع وفقدانه للشرعية والقيم، وتدفعه إلى الانحطاط الأخلاقي المرفوض والمشجوب دولياً وبخاصة في ظل عالم الاتصال والتواصل الجماهيري على مستوى الكرة الأرضية.
وبناء عليه، ينبغي على المجتمعات التي تنتهج هذه السياسات أن تعي أن العنف والقمع لا يمكن أن يكونا أساسًا لبناء مستقبل مستدام وآمن لها، وأن الطريق إلى السلام الحقيقي يبدأ بالاعتراف بحقوق الجميع ووقف دوامة العنف والكراهية وأعمال الإبادة.
فهل يستمع «يهود إسرائيل» وحلفاؤهم إلى صوت الحق والعدل في منطق التاريخ؟ هم لم يفعلوا ذلك، لا في الماضي ولا في الحاضر، ولذلك نتوقع لهم – طال الزمان أم قصر- دفع الثمن غالياً من وجودهم وفق المعادلة المتعارف عليها: «الإبادة تقود إلى الانتحار»
(Genocide is Suicide).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك