يذكر المؤرخ والمفكر الفرنسيّ كريستيان غراتالو أستاذ «الجيوتاريخ» في جامعة باريس أنَّ المجتمعات البشرية جميعها شيّدت خطابًا يموقعها في كلّ ما تراه من الكون وتتخيله عنه. و«أنَّ كلَّ مجموعة بشرية تفكر في نفسها بصفتها مجموعة بشرية، تبلور نظرية في نشأة الكون ممزوجة بسفر تكوين معين. إلا أنَّ المجتمعات قامت بذلك انطلاقًا من رؤيتها هي، ووفق ذاتية تشعر أحيانًا بأنها شبه محاصرة».
يؤكّد كريستيان غراتالو في كتابه «هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أخرى؟» أنَّ ثمَّة حاجة في عالمنا اليوم إلى تفكيك المركزيات السَّردية الكبرى التي حكمت رواية العالم وتقديمه إلى المتلقين بالمرجعية المركزية الأوروبية الحاكمة. لقد حكمتنا هذه المركزية في تقديم أطلس تاريخي للعالم منذ عهد الكولونيالية، وبالتالي قولبت صور «الآخرية»؛ أي من يوجد خارجها بالهامشية التاريخية والطمس والإلغاء والمحو. وفي مقابل هذه المركزيات والروايات التاريخيّة القومية والكولونياليّة الأوروبيّة الحاكمة برزت خطابات مناهضة ومضادة هي خطابات تريد إنشاء مركزيات جديدة توازي المركزيات الأوروبيّة الحاكمة بل تعمل أيضًا على محوها وطمسها. ففي مبحث طريف عنونه غراتالو بـ«الجميع اكتشف أميركا باستثناء كولمبوس!» يورد بعض الروايات المضادة التي تريد تصحيح الرواية الأوروبيّة الكبرى المتداولة حتى الآن عن اكتشاف أميركا! فقد قدّم الضابط السابق في البحرية الملكية البريطانية غافين منزيس رواية قروسطية صينية تذهب إلى أنَّ الرحلات الكبرى الصينية بدأت في بداية القرن الخامس عشر الميلادي وقادها زهانغ، وقد اجتازت الأطلسي ثم عادت إلى الصين على طول الساحل السيبيري. وهناك رواية إفريقية تذهب إلى أنَّ البطل المؤسّس في مالي صوندياتا كايتا ذهب في رحلة إلى ما وراء المحيط في مائتي زورق ولم يعد منها سوى زورق واحد فقط! ثم قاد السلطان أبوبكر الثاني بنفسه أسطولاً آخر من ألفي زورق لم يعد منها أي زورق!
تسمح هذه الروايات كما يؤكد غراتالو بتصور عالم أطلسي أسود، وتحاول هذه الروايات المضادة تفكيك الروايات القومية الكبرى الأوروبية التي طمست روايات الآخرين وأبقت فقط مروياتها الكبرى السَّردية الخاصة بها.
نحن بحاجة إلى وجود أطلس تاريخي كوني جديد ينظر بعمق إلى تلك العلاقات البينية بين مختلف الشعوب والحضارات في الحقب الزمنية ذاتها، وبالتالي ينظر إلى التواريخ المتعددة وإلى العمق الجغرافي والتاريخي والسياسي والثقافي لتلك العلاقات الحضارية البينية، وبالتالي لا يفرض مرجعية واحدة لتاريخ الكون اعتمادًا فقط على المرجعية التاريخيّة الأوروبيّة. لقد أعجبني في متحف اللوفر أبوظبي وجود مفهوم شامل لرؤية كونية يصدر عنها هذا المتحف العالمي في جمع ابتكارات البشرية وإبداعاتها خلال قرون طويلة للبحث عن المتشابه والمؤتلف بينها، ولدحض بعض المسلمات الفكرية الجاهزة بأنَّ ثمة انعزالاً تاريخيًا فرضته الجغرافيا على بعض الشعوب. إنَّ المتحف يريد أن يؤكد وجود صلات حضارية كشفت عنها تلك البقايا الأثرية الكونية.
في سن العاشرة أصيب غراتالو بصدمة ثقافية كبرى كانت المؤثِّرة عليه وعلى إعادة فهمه وتفكيكه للأشياء. لقد اكتشف خارج جدران المدرسة أنَّ ثمَّة تواريخ مشتركة تجمع بين فرنسا وجيرانها، وأنَّ التغيرات الأساسية والاكتشافات الكبرى، مثل الثورة الصناعية، حدثت في كامل أوروبا وليس في فرنسا فقط كما كانت الرواية القومية الفرنسية تُقدم لطلاب المدارس، وكانت لها نتائج حتى بالنسبة إلى شعوب نائية جدًا.
يسمح التأمل في المتاحف أن يقوم الإنسان بإعادة سرد تواريخ البشرية من منظور جديد ومغاير، وأذكر هنا نتيجة تأمل توصلت إليها شخصًيا بعيدًا عن الكتب ففي متحف الفن المعاصر في مدينة ميلانو الإيطالية وعندما كنت أتأمل اللوحات الفنية والجداريات الضخمة التي أنتجها كبار الفنانين الإيطاليين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت الأيقونة الدينية في سرد قصة العهد الجديد (الإنجيل) لاتزال مسيطرة ومهيمنة على اللوحات الجدارية والمنحوتات والتماثل رغم تجاوز هذه الأيقونة في أوروبا القرن التاسع عشر، وبروز تيارات الفن الجديد في مناطق أخرى من أوروبا مثل الانطباعية والتكعيبية والسوريالية وغيرها. إذن ثمَّة اختلافات استثنائية مغايرة في المشهد الكلي؛ ولذلك أنصح بقراءة مثل هذه الكتب المحرضة على التفكير لإعادة تفكيك بعض المركزيات السردية الحاكمة في تفسير التاريخ الكوني الشامل وإعادة النظر إليه من منظور جديد!
كتاب «هل يجب التفكير في تاريخ العالم بطريقة أخرى؟» هو كتاب للمفكر والمؤرخ الفرنسيَّ كريستيان غراتالو ومن ترجمة د. الهادي التيمومي أستاذ التاريخ المعاصر المتميّز في الجامعة التونسية، ومن إصدارات مشروع «نقل المعارف» عن هيئة البحرين للثقافة والآثار.
أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث
المشارك،كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك