العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الحج على مهل وعلى عجل

في‭ ‬عصر‭ ‬الهرولة‭ ‬واللهاث‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه،‭ ‬صرت‭ ‬كلما‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬مؤخرا‭ ‬أن‭ ‬الحجيج‭ ‬عادوا‭ ‬الى‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬بعد‭ ‬أداء‭ ‬الفريضة‭ ‬الخامسة،‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬إبليس‭: ‬إنهم‭ ‬مستهبلون،‭ ‬فكيف‭ ‬يقضي‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬ثلاثة‭ ‬أو‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬المقدسة،‭ ‬ويؤدي‭ ‬كل‭ ‬شعائر‭ ‬الحج‭ ‬ثم‭ ‬يعود؟‭ ‬وأعرف‭ ‬أن‭ ‬إبليس‭ ‬خبيث،‭ ‬ولكن‭ ‬تساؤله‭ ‬يهيج‭ ‬الشجون‭ ‬والذكريات،‭ ‬ويجعلني‭ ‬أستعيد‭ ‬أمر‭ ‬الحجاج‭ ‬المنطلقين‭ ‬الى‭ ‬مكة‭ ‬من‭ ‬اقصى‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬قبل‭ ‬عقود‭ ‬قليلة،‭ ‬وكيف‭ ‬إن‭ ‬الشبعان‭ ‬أبو‭ ‬جيب‭ ‬مليان‭ ‬منهم‭ ‬كان‭ ‬يعود‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬شهر‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬معظمهم‭ ‬يعود‭ ‬بعد‭ ‬40‭ ‬إلى‭ ‬60‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬بدء‭ ‬الرحلة،‭ ‬وأذكر‭ ‬تماما‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬زفة‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬يرددون‭ ‬أناشيد‭ ‬وأدعية‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية‭ ‬ترافق‭ ‬كل‭ ‬حاج‭ ‬حتى‭ ‬المرسى،‭ ‬الذي‭ ‬سيغادر‭ ‬منه‭ ‬جزيرتنا‭ ‬النهرية‭ ‬ليركب‭ ‬شاحنة‭ ‬توصله‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدموع‭ ‬لأن‭ ‬مشاق‭ ‬الحج‭ ‬كانت‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الحجاج‭ ‬كانوا‭ ‬يموتون‭ ‬بسبب‭ ‬الإجهاد‭ ‬خلال‭ ‬الرحلات‭ ‬الطويلة‭ ‬الى‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬والمدينة‭ ‬المنورة،‭ ‬ومن‭ ‬الخرطوم‭ ‬كان‭ ‬الحاج‭ ‬ينتظر‭ ‬القطار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتجه‭ ‬الى‭ ‬بورتسودان‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬أو‭ ‬يأخذ‭ ‬القطار‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬عطبرة‭ ‬عاصمة‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬حيث‭ ‬يجد‭ ‬قطارا‭ ‬يوميا‭ ‬ينقله‭ ‬الى‭ ‬بورتسودان،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬تشهد‭ ‬معسكرات‭ ‬ضخمة‭ ‬يقيم‭ ‬فيها‭ ‬الحجاج‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬دورهم‭ ‬لركوب‭ ‬السفن‭ ‬للانتقال‭ ‬الى‭ ‬جدة،‭ ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬بالحافلات‭ ‬الى‭ ‬مكة‭ ‬عبر‭ ‬طريق‭ ‬غير‭ ‬ممهد،‭ ‬وبعد‭ ‬الفراغ‭ ‬من‭ ‬شعائر‭ ‬الحج‭ ‬يتم‭ ‬التوجه‭ ‬الى‭ ‬المدينة‭ ‬عبر‭ ‬طريق‭ ‬أكثر‭ ‬وعورة‭.‬

وبسبب‭ ‬الحج‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬اهل‭ ‬غرب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬فبعضهم‭ ‬كان‭ ‬يترك‭ ‬بلاده‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬موسم‭ ‬الحج‭ ‬ويدخل‭ ‬السودان‭ ‬سيرا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬ثم‭ ‬يتوقفون‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬يدرّ‭ ‬عليهم‭ ‬عائدا‭ ‬يكفي‭ ‬لشراء‭ ‬تذكرة‭ ‬ركوب‭ ‬سفينة‭ ‬بعد‭ ‬الوصول‭ ‬الى‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬سيرا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬اي‭ ‬بعد‭ ‬مسيرة‭ ‬استغرقت‭ ‬قرابة‭ ‬11‭ ‬شهرا،‭ ‬ومن‭ ‬عجز‭ ‬منهم‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬قيمة‭ ‬التذكرة‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬نهائيا‭ ‬ثم‭ ‬استقدم‭ ‬عائلته‭ ‬لاحقا،‭ ‬وكثيرون‭ ‬ممن‭ ‬نجحوا‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج‭ ‬طاب‭ ‬لهم‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كعمال‭ ‬زراعيين،‭ ‬وبمرور‭ ‬الزمن‭ ‬صار‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬ملاك‭ ‬الاراضي،‭ ‬والى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬يستطيع‭ ‬كل‭ ‬راغب‭ ‬من‭ ‬غرب‭ ‬إفريقيا‭ ‬دخول‭ ‬السودان‭ ‬بدون‭ ‬اي‭ ‬أوراق‭ ‬رسمية،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الذهاب‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬الى‭ ‬السعودية‭ ‬لأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬50‭ ‬سنة‭ ‬يتطلب‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬فيزا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬السوداني‭ ‬العازم‭ ‬على‭ ‬الحج‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬أهله‭ ‬سالما،‭ ‬ليجد‭ ‬البوابة‭ ‬الخارجية‭ ‬لبيته‭ ‬مطلية‭ ‬باللون‭ ‬الابيض‭ ‬وعليها‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬حجا‭ ‬مبرورا‭ ‬وسعيا‭ ‬مشكورا‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬الحجاج‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان‭ ‬‮«‬تزوغ‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تستحلي‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬فلا‭ ‬تعود‭ ‬الى‭ ‬وطنها‭ ‬الاصلي‭. ‬واليوم‭ ‬يصل‭ ‬الحاج‭ ‬من‭ ‬إندونيسيا‭ ‬الى‭ ‬مكة‭ ‬خلال‭ ‬ساعات،‭ ‬ويكمل‭ ‬الشعائر‭ ‬على‭ ‬خير‭ ‬وجه،‭ ‬ويعود‭ ‬الى‭ ‬بلاده‭ ‬فيلتقي‭ ‬به‭ ‬جار‭ ‬ويسأله‭: ‬وينك‭ ‬ما‭ ‬شفناك‭ ‬من‭ ‬كذا‭ ‬يوم؟‭ ‬فيكون‭ ‬الرد‭: ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬رحت‭ ‬الحج‭ ‬ورجعت‭.. ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬والله‭ ‬حسبتك‭ ‬عيان‭ ‬أو‭ ‬رحت‭ ‬المدينة‭ ‬تتسوّق‭.‬

رحلتي‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬الى‭ ‬وسطه‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬كانت‭ ‬بالشاحنات‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تحويلها‭ ‬الى‭ ‬حافلات‭ ‬بتزويدها‭ ‬بمقاعد‭ ‬مصابة‭ ‬بشد‭ ‬عضلي‭ ‬واستغرقت‭ ‬نحو‭ ‬36‭ ‬ساعة‭ ‬تخللتها‭ ‬استراحة‭ ‬نوم‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬رملية،‭ ‬واليوم‭ ‬لا‭ ‬تستغرق‭ ‬نفس‭ ‬الرحلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ست‭ ‬ساعات،‭ ‬بل‭ ‬تستطيع‭ ‬قطع‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬المسافة‭ ‬بالطائرة‭ ‬وتكمل‭ ‬بقية‭ ‬المشوار‭ ‬بسيارة‭ ‬فتقطع‭ ‬المسافة‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬ساعتين،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬لأن‭ ‬الخواجات‭ ‬اخترعوا‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬الحديثة‭ ‬وعلمونا‭ ‬رصف‭ ‬الطرق‭ ‬بالأسفلت،‭ ‬ثم‭ ‬نستمتع‭ ‬بشتمهم‭ ‬ولعنهم‭ ‬وتحميلهم‭ ‬وزر‭ ‬قعودنا‭ ‬وتوقفنا‭ ‬عن‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الإنساني‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا