أَطلقتْ منظمة الصحة العالمية على هذا العامل الجديد المسبب لقتل البشر في كل أنحاء العالم، وفي كل دول العالم دون استثناء بالقاتل الصامت، وأنا أُطلق عليه بقنبلة الدمار الشامل التي تفسد الجسم البشري برمته، جسدياً، ونفسياً، وعقلياً، وهذا الوباء الجديد المتفشي منذ عقود طويلة هو تلوث الهواء، سواء في البيئات الداخلية كالمنزل خاصة، أو البيئات الخارجية.
فالهواء الجوي الذي نستنشقه الآن مرَّ بمراحل مختلفة كثيرة، بدءاً بالثورة الصناعية الأولى ثم الثانية، وكل ما كان يجري على الأرض من استخدام للمحركات ومصادر الوقود كان ينعكس مباشرة على الهواء الجوي من الناحيتين النوعية، أي جودة الهواء الجوي وسلامته، أو من الناحية الكمية، أي حجم وتركيز الملوثات الموجودة في الهواء.
فمنذ مطلع القرن التاسع عشر كانت هناك الملوثات «التقليدية»، أي التي تَنْتُج مباشرة من حرق الوقود الأحفوري، سواء أكان الفحم في القطارات، ومصانع توليد الكهرباء والمصانع، أو الديزل لتشغيل كل أنواع المحركات والمولدات، أو الغاز الطبيعي في محطات الطاقة، أو الجازولين كوقود محرك للسيارات. فنوعية الملوثات الخطرة التي طغت وتشبع بها الهواء الجوي في تلك الحقبة التاريخية، كان من أشدها تنكيلاً بصحة البيئة وسلامة الإنسان غاز أكاسيد الكبريت والنيتروجين، والدخان الأسود المشبع بشتى أنواع السموم، إضافة إلى غاز أول أكسيد الكربون ومركبات الرصاص العقيمة المفسدة لصحة البشر، وبخاصة الأطفال.
ثم جاءت الحقبة الزمنية الثانية لنوعية وتركيز الملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد بعد أن حسَّن الإنسان وطوَّر من جودة الوقود المحترق في محطات الطاقة، والسيارات، والقطارات، والطائرات، حيث قام بإزالة الكبريت والرصاص من مصادر الوقود كلها، إضافة إلى وضع أجهزة التحكم في المصانع والسيارات، مما أدى إلى انكشاف ملوثات «حديثة» علاوة على الملوثات التقليدية القديمة، ومنها غاز الأوزون السام والخطر الذي ينتج من تفاعل بعض الملوثات التقليدية، مثل أكاسيد النيتروجين والملوثات الهيدروكربونية المتطايرة وعند وجود أشعة الشمس الذي يعمل كعامل مساعد يتولد خليط معقد وسام من الملوثات، في مقدمتها غاز الأوزون وملوثات مؤكسدة كثيرة أخرى.
وأما المرحلة الثالثة فهي تجمع بين المرحلتين السابقتين، مرحلة الملوثات التقليدية التي انخفض تركيز بعضها كأكاسيد الكبريت والرصاص والدخان الأسود، ومرحلة الملوثات غير التقليدية، وهذه المرحلة الجديدة الأخيرة أُطلق عليها المرحلة البلاستيكية، أو مرحلة المخلفات الميكروبلاستيكية والنانوبلاستيكية والجسيمات البلاستيكية الدقيقة والمتناهية في الصغر، إضافة إلى المواد العضوية التي تحتوي على أعدادٍ كبيرة من عنصر الفلورين. وهي مجموعة مكونة من آلاف المواد الكيميائية ويُطلق عليها (PFAS). وهذه المرحلة تزامنت وانكشفت بعد تعميم استخدام المنتجات البلاستيكية في جميع مناحي الحياة، فلن تجد الآن منتجاً نستخدمه بشكل يومي ولا يمكن الاستغناء عنه إلا ويدخل في تكوينه أحد أنواع المواد البلاستيكية.
فالعلماء أكدوا الآن هذه الحقيقة الواقعة، وهي تشبع جميع مكونات بيئتنا وخلايا أجسامنا بهذه الجسيمات البلاستيكية العقيمة، وشمروا اليوم للولوج في مرحلة استكشافية بحثية جديدة هي مدى خطورة هذه الملوثات البلاستيكية على أعضاء أجسامنا والأمراض التي قد نسقط فيها بسبب وجود هذه الجسيمات المجهرية.
فجميع هذه الملوثات القديمة والحديثة والجديدة موجودة في الهواء الجوي، وقد تعمل بطريقة تعاونية ومجموعية على إحداث خللٍ في أعضاء جسم الإنسان وتعريضه للأسقام المزمنة المستعصية على العلاج. وآخر بحث اطلعتُ عليه سبر غور تأثير تلوث الهواء على دماغ الأطفال. وقد نُشر هذا البحث في أكتوبر 2024 في مجلة (DevelopmentalCognitive Neuroscience) تحت عنوان: »تنظيف الهواء: مراجعة منهجية للدراسات حول تلوث الهواء ووظائف المخ في مرحلة الطفولة من أجل تغيير السياسات».
فهذا البحث الشامل الجامع قام بحصر وتحليل 40 دراسة من أربع قارات، هي أمريكا، وأوروبا، وآسيا، وأستراليا، وكلها تدخل في مجال إيجاد علاقة بين تلوث الهواء، والسكن في مناطق ملوثة، والتغييرات والفروقات في بناء ووظيفة أجزاء مخ الأطفال في هذه الدول، من حديثي الولادة إلى الذين بلغوا 18 عاماً. وهذه الاختلافات التي تمت دراستها تتمثل في حجم وسمك المادة البيضاء والرمادية في المخ، والعمليات الحيوية التي تجري في المخ والمواد الكيميائية التي تنجم عنها، إضافة إلى دراسة شبكة التواصل الداخلي بين أجزاء ومكونات الدماغ المختلفة، كما ولجت الدراسة بعمق على الأورام التي تنتج عند الأطفال، وبخاصة الأورام السرطانية.
وقد تمخضت عن الدراسة عدة استنتاجات عامة، منها أولاً: تأثيرات تلوث الهواء على الأم الحامل والجنين تمر بمرحلتين، الأولى أثناء وجود الجنين في الرحم، والثانية بعد خروجه إلى الحياة الدنيا، ودور تلوث الهواء في ظهور تعقيدات الحمل والولادة ونمو الطفل منذ ولادته. فتلوث الهواء يؤثر على المرأة الحامل، وهذا بدوره يؤثر في الجنين في رحم الأم ويسبب التهابات مزمنة، كولادة الجنين الميت، أو منخفض الوزن، أو الولادة المبكرة، أو ولادة جنين معوق جسدياً وعقلياً، وبعد الولادة يكون التأثير عن طريق الجهاز التنفسي، وبالتحديد الرئة، ومنها إلى مجرى الدم وإلى كل خلية من خلايا أعضاء الجسم، بما في ذلك المخ، حيث تتعدى الملوثات وتتخطى العوائق والحدود الطبيعية بين الدم وخلايا المخ، والمعروفة بالحاجز الدموي الدماغي (blood-brain barrier (BBB) .
وثانياً هو أن تلوث الهواء حتى بمستويات منخفضة أقل من المعايير والمواصفات الخاصة بجودة الهواء تضر بخلايا المخ، وتُحدث خللاً في مخ الأطفال، أي أن هناك علاقة سببية بين تلوث الهواء وصحة مخ الأطفال. فوظائف أجزاء المخ عند الأطفال الذين يتعرضون للهواء الملوث تختلف عن الأطفال الذين يعيشون في بيئات غير ملوثة. وأما الاستنتاج الثالث فهو عند تحليل أنسجة المخ تبين أن هناك تلفاً في بناء المخ والأوعية الدموية عند الأطفال الذين يتعرضون لتلوث الهواء، ومن أكثر الملوثات تدميراً لصحة المخ هو الدخان والملوثات الأخرى المنبعثة من الحركة المرورية من عوادم السيارات.
فهذه الدراسات تؤكد التهديد الذي يمثله تلوث الهواء ليس فقط لكبار السن وإنما للأطفال الذين هم يحركون ويواصلون عجلة التنمية في الدول. فتأثير التلوث على المخ يعني التأثير المباشر في التذكر، والتفكير، والسلوك، والحواس، والقدرة على حل المشاكل، والتوازن والتحكم في الجسم، وما إلى ذلك من الوظائف الحيوية العظيمة التي يؤديه المخ للإنسان.
ولذلك لا بد من وضع تلوث الهواء في أعلى سلم الأولويات حتى نتمتع في دولنا بصحة جيدة دائمة لأطفالنا، ونحقق أهداف التنمية المستدامة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك