العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

بصمات نسائية

أرفض لقب صماء واختلافنا يزيدنا جمالا وكمالا

أجرت الحوار: هالة كمال الدين

الأربعاء ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

يقول‭ ‬الفيلسوف‭ ‬اليوناني‭ ‬الشهير‭ ‬سقراط‭: ‬‮«‬الحياة‭ ‬بدون‭ ‬اختبارات‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها‮»‬‭!‬

لقد‭ ‬اختبرها‭ ‬الخالق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬بابتلاء‭ ‬منذ‭ ‬ولادتها،‭ ‬ولكنها‭ ‬أبت‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الامتحان‭ ‬وبامتياز،‭ ‬فقد‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المحنة‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬تألقها‭ ‬وتميزها،‭ ‬وأن‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬قوة،‭ ‬لإيمانها‭ ‬بأن‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يعطي‭ ‬أصعب‭ ‬معاركه‭ ‬إلا‭ ‬لأقوى‭ ‬جنوده،‭ ‬فكانت‭ ‬أول‭ ‬طبيبة‭ ‬أسنان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬فاقدة‭ ‬لحاسة‭ ‬السمع‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬طب‭ ‬الفم‭ ‬والأسنان‭ ‬وتخوض‭ ‬انتخابات‭ ‬نقابة‭ ‬الأطباء‭ ‬بالمملكة‭ ‬ومتحدثة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬هيئة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭.‬

د‭. ‬إسراء‭ ‬البابلي،‭ ‬ترى‭ ‬ابتلاءها‭ ‬أكبر‭ ‬نعمة‭ ‬رزقت‭ ‬بها،‭ ‬فقد‭ ‬اكتفت‭ ‬بأن‭ ‬تستمع‭ ‬إلى‭ ‬أصوات‭ ‬الدنيا‭ ‬وتغاريدها‭ ‬على‭ ‬طريقتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬واختارت‭ ‬أن‭ ‬تتواصل‭ ‬بلغة‭ ‬الشفاه‭ ‬التي‭ ‬كسرت‭ ‬بها‭ ‬حاجز‭ ‬عالم‭ ‬الصمت‭ ‬وقفزت‭ ‬على‭ ‬أسواره‭ ‬وتحررت‭ ‬منه،‭ ‬فجاءت‭ ‬الانطلاقة‭ ‬مبهرة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬إصرار‭ ‬وعزيمة‭. ‬

حول‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الملهمة‭ ‬كان‭ ‬الحوار‭ ‬التالي‭: ‬

كيف‭ ‬تم‭ ‬اكتشاف‭ ‬الإعاقة؟

حين‭ ‬فتحت‭ ‬عيناي‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬لم‭ ‬أتوقع‭ ‬مطلقا‭ ‬أن‭ ‬تنشأ‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الحياة‭ ‬علاقة‭ ‬كراهية،‭ ‬فقد‭ ‬ولدت‭ ‬فاقدة‭ ‬لحاسة‭ ‬يراها‭ ‬الكثيرون‭ ‬شديدة‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬والتعلم‭ ‬والمعرفة،‭ ‬ولم‭ ‬انطق‭ ‬بحرف‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬بكلمة‭ ‬ماما‭ ‬وبابا‭ ‬لسنوات‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬طفل‭ ‬سوي،‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬كنت‭ ‬ألهو‭ ‬فيه‭ ‬بأواني‭ ‬الطهي‭ ‬وأصدر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ضجيجا‭ ‬كبيرا‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬علي‭ ‬أي‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تعابير‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬الأصوات‭ ‬العالية‭ ‬فادرك‭ ‬الوالدين‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مشكلة‭ ‬ما‭ ‬فاصطحباني‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب،‭ ‬وتم‭ ‬تشخيص‭ ‬حالتي،‭ ‬وبالطبع‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬عانا‭ ‬من‭ ‬الصدمة،‭ ‬وعاشا‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬النكران،‭ ‬وهنا‭ ‬بدأت‭ ‬رحلتي‭ ‬مع‭ ‬تلقي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الصفعات‭.‬

أول‭ ‬محطة‭ ‬لمعركتك‭ ‬مع‭ ‬الحياة؟

عند‭ ‬تشخيص‭ ‬حالتي‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬صمم‭ ‬حسي‭ ‬عصبي‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬الأذنين،‭  ‬نزل‭ ‬الخبر‭ ‬كالصاعقة‭ ‬على‭ ‬الوالدين،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬أصبحا‭ ‬ينظران‭ ‬إلى‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬واعتبرا‭ ‬هذا‭ ‬الابتلاء‭ ‬مجرد‭ ‬عقبة‭ ‬بسيطة‭ ‬سوف‭ ‬يتم‭ ‬تجاوزها‭ ‬من‭ ‬خلال‭  ‬تعاوننا‭ ‬جميعا،‭ ‬وكانت‭ ‬أول‭ ‬محطة‭ ‬لمعركتي‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬هي‭  ‬ارتدائي‭ ‬السماعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭  ‬حقبة‭ ‬التسعينات‭ ‬ثقيلة‭ ‬الوزن‭ ‬ومتصلة‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الأسلاك،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬عمليات‭ ‬زراعة‭ ‬للقوقعة،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أذكر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الطبيب‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬اكتسابي‭ ‬اللغة‭ ‬أمر‭ ‬يعتبر‭ ‬مستحيلا،‭ ‬وأنه‭ ‬علي‭ ‬أن‭ ‬أبدأ‭ ‬في‭ ‬تعلم‭ ‬واستخدام‭ ‬لغة‭ ‬الإشارة‭ ‬للتواصل،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬والدي‭ ‬من‭ ‬عزيمة‭ ‬وإصرار،‭ ‬فقد‭ ‬تعلمت‭ ‬منهما‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬مستحيل،‭ ‬وأنه‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬مفتاحا‭ ‬لأي‭ ‬باب‭ ‬فعلي‭ ‬ألا‭ ‬أيأس‭ ‬مطلقا‭ ‬وأحاول‭ ‬كسره‭.‬

 

ماذا‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬كلمة‭ ‬تم‭ ‬النطق‭ ‬بها؟

ظل‭ ‬الوالدان‭ ‬ينتظران‭ ‬سماع‭ ‬صوتي‭ ‬والنطق‭ ‬بأولى‭ ‬كلماتي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كلل‭ ‬أو‭ ‬ملل،‭ ‬وقد‭ ‬التحقت‭ ‬أمي‭ ‬بدورة‭ ‬تدريبية‭ ‬في‭ ‬التخاطب‭ ‬والتأهيل‭ ‬اللفظي،‭ ‬وصبت‭ ‬كل‭ ‬اهتمامها‭ ‬على‭ ‬تحسن‭ ‬حالتي،‭ ‬وتخلت‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬طموحاتها‭  ‬الشخصية،‭ ‬وركزت‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬لي‭ ‬حياة‭ ‬سعيدة،‭ ‬وعكفت‭ ‬على‭ ‬تدريبي‭ ‬على‭ ‬النطق‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬كانت‭ ‬تنزف‭ ‬الدم‭ ‬من‭ ‬حنجرتها،‭ ‬واستمرت‭ ‬المحاولات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬اليوم‭ ‬الذى‭ ‬بعث‭ ‬لهما‭ ‬فيه‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬نسمة‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬كانا‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الانهيار،‭ ‬وسمعا‭ ‬مني‭ ‬فجأة‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬سابق‭ ‬إنذار‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬بابا‭ ‬وماما‮»‬،‭ ‬وكأن‭ ‬الخالق‭ ‬طبطب‭ ‬عليهما‭ ‬بعد‭ ‬مشوار‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬وأرسل‭ ‬اليهما‭ ‬رسالة‭ ‬تحفزهما‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬الدرب،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬التقط‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬والعبارات‭ ‬القصيرة‭ ‬غير‭ ‬المفهومة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬وقت‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مدرسة‭ ‬تقبل‭ ‬حالتي‭.‬

تفاصيل‭ ‬الرحلة؟

حين‭ ‬رفضت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬قبولي‭ ‬بسبب‭ ‬حالتي‭ ‬هنا‭ ‬شعرت‭ ‬بنبذ‭  ‬المجتمع‭ ‬لي،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬رفضت‭ ‬ارتداء‭ ‬السماعة‭ ‬وتمنيت‭ ‬أن‭ ‬التحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬وأمارس‭ ‬حياتي‭ ‬مع‭ ‬أقراني‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬مثلي‭ ‬مثلهن،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أدري‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬قباحته‭ ‬مهم‭ ‬لي‭ ‬للغاية،‭ ‬وكانت‭ ‬والدتي‭ ‬تؤكد‭ ‬لي‭ ‬دوما‭ ‬أنني‭ ‬متميزة‭ ‬ولست‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬الآخرين،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬رفض‭ ‬البعض‭ ‬لي،‭ ‬وأن‭ ‬الخالق‭ ‬اصطفاني‭ ‬كي‭ ‬أكون‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬جنوده‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬قبولي‭ ‬بإحدى‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬مصر‭ ‬العربية‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬إحدى‭ ‬المعلمات‭ ‬تعاني‭ ‬الصمم‭ ‬مثلي‭ ‬وترتدي‭ ‬نفس‭ ‬السماعة،‭ ‬وتعلقت‭ ‬بها‭ ‬جدا‭ ‬بشدة،‭ ‬ولكن‭ ‬الأهالي‭ ‬نفروا‭ ‬مني،‭ ‬وطالبوا‭ ‬بنقلي‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬لذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬تأثيري‭ ‬سلبا‭ ‬على‭ ‬أبنائهم‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬النطق‭ ‬وطبيعة‭ ‬الصوت،‭ ‬وبالفعل‭ ‬تم‭ ‬طردي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭.‬

بعد‭ ‬الطرد‭ ‬من‭ ‬المدرسة؟

عقب‭ ‬طردي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬جاءت‭ ‬تدابير‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬ليعوضني‭ ‬عن‭ ‬صدمتي،‭ ‬حيث‭ ‬أسند‭ ‬لوالدي‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين،‭ ‬وهنا‭ ‬بدأت‭ ‬مرحلة‭  ‬جديدة‭ ‬وجميلة‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وجدت‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الرعاية‭ ‬والأمن‭ ‬والأمان،‭ ‬وتم‭  ‬إدماجي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المدارس‭ ‬وبلا‭ ‬أي‭ ‬تمييز،‭ ‬ووجدت‭ ‬كل‭ ‬سبل‭ ‬الدعم‭ ‬من‭ ‬المعلمات‭ ‬والزميلات،‭ ‬وآمن‭ ‬الجميع‭ ‬بقدراتي‭ ‬وخاصة‭ ‬مديرة‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشجعني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحسن‭ ‬نطقي‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬أمام‭ ‬الطابور‭ ‬المدرسي‭ ‬والتحدث‭  ‬إلى‭ ‬الطالبات،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬قمت‭ ‬بتلاوة‭ ‬سورة‭ ‬الفاتحة‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬أمسكت‭ ‬فيها‭ ‬بالميكروفون‭ ‬وصفق‭ ‬لي‭ ‬الجميع‭ ‬بحرارة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬حفزني‭ ‬كثيرا‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬مشواري‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭.‬

متى‭ ‬تمت‭ ‬زراعة‭ ‬القوقعة؟

بعد‭ ‬أن‭ ‬قضيت‭ ‬طفولتي‭ ‬بين‭ ‬المدرسة‭ ‬وبين‭ ‬دروس‭ ‬التخاطب‭ ‬والتدريب‭ ‬اللفظي‭ ‬والسمعي،‭ ‬فوجئنا‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬الثانوي‭ ‬بأنني‭ ‬فقدت‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬السمع‭ ‬في‭ ‬الأذن‭ ‬اليسرى،‭ ‬وهنا‭ ‬كان‭ ‬لزاما‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نجري‭ ‬عملية‭ ‬زراعة‭ ‬القوقعة‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬علم‭ ‬الطب‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬تجرى‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬صغير،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمامي‭ ‬أي‭ ‬خيار‭ ‬آخر‭. ‬

وبعد‭ ‬العملية؟

كنت‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬زراعة‭ ‬القوقعة‭ ‬ستمكنني‭ ‬من‭ ‬سماع‭ ‬نغمات‭ ‬الحياة‭ ‬وهمساتها،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬توقعاتي‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬بكثير،‭ ‬فقد‭ ‬عانيت‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬شديدة‭ ‬لم‭ ‬اشعر‭ ‬بها‭ ‬قط،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬تشغيل‭ ‬الجهاز‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬صرخت‭ ‬واخبرت‭ ‬الأطباء‭ ‬انني‭ ‬لا‭ ‬اريده‭ ‬وألقيت‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وظن‭ ‬البعض‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬بالغت‭ ‬في‭ ‬رد‭ ‬فعلي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سمعوا‭ ‬نفس‭ ‬الشكوى‭ ‬من‭ ‬آخرين،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬عصب‭ ‬السمع‭ ‬عندي‭ ‬عالي‭ ‬الحساسية‭ ‬للأصوات‭ ‬المرتفعة،‭ ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أستخدم‭ ‬الجهاز‭ ‬إلا‭ ‬قليلا‭ ‬وبسبب‭ ‬مشاكله‭ ‬فضلت‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الصمت،‭ ‬ومازلت‭ ‬احتفظ‭ ‬بسماعتي‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬والتي‭ ‬اعتبرها‭ ‬رفيقة‭ ‬دربي،‭ ‬ولن‭ ‬أفرط‭ ‬فيها‭  ‬مطلقا‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬خانتني‭ ‬هي‭ ‬وتخلت‭ ‬عني‭.‬

وسيلة‭ ‬تواصلك‭ ‬مع‭ ‬الآخرين؟

لقد‭ ‬أكملت‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬وأنا‭ ‬معتمدة‭ ‬على‭ ‬سماعة‭ ‬في‭ ‬أذن‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬تلتقط‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تثمن‭ ‬ولا‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬جوع،‭ ‬لتظل‭ ‬قراءة‭ ‬الشفاه‭ ‬هي‭ ‬الملجأ‭ ‬والملاذ‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬والتي‭ ‬عكفت‭ ‬على‭ ‬اتقانها‭ ‬والاعتماد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬وكان‭ ‬لزاما‭ ‬علي‭ ‬تقبل‭ ‬وضعي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬صعوبة‭ ‬وفي‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬الثانوي‭ ‬أعلنت‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬الالتحاق‭ ‬بكلية‭ ‬طب‭ ‬الفم‭ ‬والأسنان‭ ‬واعتبر‭ ‬والدي‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬مجرد‭ ‬كلام،‭ ‬وسعيت‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭ ‬وإصرار‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭.‬

ماذا‭ ‬تطلب‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف؟

كل‭ ‬ما‭ ‬تطلبه‭ ‬تحقيق‭ ‬هدفي‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬العزيمة‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭  ‬كسر‭ ‬حاجز‭ ‬المستحيل‭ ‬بداخلي،‭ ‬وقد‭ ‬قلت‭ ‬لنفسي‭ ‬إن‭ ‬قدرك‭ ‬وحلمك‭ ‬بيدك‭ ‬أنت‭ ‬فقط،‭ ‬وبالفعل‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬مجموع‭ ‬94%‭ ‬في‭ ‬الثانوية‭ ‬العامة،‭ ‬وكان‭ ‬أعلى‭ ‬معدل‭ ‬حققه‭ ‬أي‭ ‬طالب‭ ‬من‭ ‬فاقدي‭ ‬حاسة‭ ‬السمع‭ ‬منذ‭ ‬الولادة،‭ ‬وتم‭ ‬تكريمي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬وقررت‭ ‬الالتحاق‭ ‬بكلية‭ ‬الطب‭ ‬رغم‭ ‬محاولات‭ ‬إحباطي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكثيرين‭ ‬وتأكيدهم‭ ‬أنها‭ ‬تفوق‭ ‬قدراتي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬زادني‭ ‬إصرارا،‭ ‬وركزت‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬نقطة‭ ‬ضعفي‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬قوة،‭ ‬وتم‭ ‬قبولي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬رئيس‭ ‬جامعة‭ ‬المستقبل‭ ‬د‭. ‬عباد‭ ‬سرحان،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬جملته‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬لي‭  ‬‮«‬أمثالك‭ ‬خلق‭ ‬النجاح‭ ‬لهم‮»‬‭.‬

حدثينا‭ ‬عن‭ ‬مرحلة‭ ‬الجامعة؟

لم‭ ‬أعانِ‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الجامعة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬صعوبة‭ ‬أكاديمية‭ ‬تذكر،‭ ‬فكل‭ ‬عقبة‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬حل،‭ ‬فيما‭ ‬عدا‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬الأسوأ‭ ‬والأقسى‭ ‬على‭ ‬الاطلاق،‭ ‬فقد‭ ‬واجهت‭ ‬حروبا‭ ‬ونفورا‭ ‬واشمئزازا‭ ‬من‭ ‬الكثيرين‭ ‬الذين‭ ‬استكثروا‭ ‬عليّ‭ ‬حقي‭ ‬بان‭ ‬أكون‭ ‬طبيبة،‭ ‬ولكني‭ ‬واصلت‭ ‬بكل‭ ‬إصرار‭ ‬وصلابة‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬ممتنة‭ ‬لتلك‭ ‬المرحلة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭.‬

أجمل‭ ‬اللحظات؟

بعد‭ ‬التخرج‭ ‬شعرت‭ ‬بالسعادة‭ ‬لتحرري‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬القاسية،‭ ‬وعقب‭ ‬ذلك‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أكرم‭ ‬أمام‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الرئيس‭ ‬المصري‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬السيسي،‭ ‬فبكيت‭ ‬وقتها‭ ‬وأدركت‭ ‬معنى‭ ‬مقولة‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬حلمك‭ ‬نجمة‭ ‬والله‭ ‬يريد‭ ‬لك‭ ‬القمر،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬لحظات‭ ‬حياتي،‭ ‬ثم‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ ‬في‭ ‬انجاز‭ ‬فريد‭ ‬واجهت‭ ‬خلاله‭ ‬صعوبات‭ ‬بالغة‭.‬

ما‭ ‬أشد‭ ‬الصعوبات‭ ‬التي‭ ‬واجهتك؟

تكمن‭ ‬صعوبة‭ ‬تجربة‭ ‬دراسة‭ ‬الماجستير‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬تزامنت‭ ‬مع‭ ‬اندلاع‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬العثرات‭ ‬التي‭ ‬واجهتها،‭ ‬فإنها‭ ‬أشعرتني‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬حيث‭ ‬حظيت‭ ‬بزملاء‭ ‬رائعين،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬التوقف‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬الطريق‭ ‬ولكن‭ ‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬تقذفني‭ ‬الحياة‭ ‬بالحجارة‭ ‬أجمعها‭ ‬وأبني‭ ‬بها‭ ‬سلما‭ ‬نحو‭ ‬النجاح،‭ ‬ومن‭ ‬المفارقات‭ ‬العجيبة‭ ‬أنني‭ ‬حين‭ ‬وقفت‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬لمناقشة‭ ‬رسالتي‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بتاريخ‭ ‬2‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬أخبروني‭ ‬فيه‭ ‬قبل‭ ‬29‭ ‬عاما‭ ‬بأنني‭ ‬لن‭ ‬أسمع‭ ‬أو‭ ‬أتحدث‭. ‬

إنجازات‭ ‬تفخرين‭ ‬بها؟

لقد‭ ‬قررت‭ ‬خوض‭ ‬انتخابات‭ ‬نقابة‭ ‬أطباء‭ ‬الاسنان‭ ‬وأصبحت‭ ‬أول‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم‭ ‬يقدم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة،‭ ‬ونجحت‭ ‬وتقلدت‭ ‬منصب‭ ‬الأمين‭ ‬العام،‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬أول‭ ‬متحدثة‭ ‬رسمية‭ ‬بتاريخ‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬فاقدة‭ ‬لحاسة‭ ‬السمع‭ ‬وفتاة‭ ‬تحتل‭ ‬غلاف‭ ‬مجلة‭ ‬سيدتي‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الوسط‭ ‬الفني،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬كتاب‭ ‬عرضت‭ ‬فيه‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬صغيرة‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬قيمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬فقدناها‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬وتم‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬القاهرة‭ ‬الدولي‭ ‬للكتاب،‭ ‬هذا‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬افتتاح‭ ‬عيادتي‭ ‬الخاصة‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬الإنجازات‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬مشواري‭.‬

رسالة‭ ‬لذوي‭ ‬الهمم؟

في‭ ‬حوار‭ ‬أجريته‭ ‬عبر‭ ‬قناة‭ ‬‮«‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‮»‬‭ ‬وجهت‭ ‬رسالة‭ ‬مهمة‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة،‭ ‬مفادها‭ ‬‮«‬كن‭ ‬طموحا‭ ‬لتشعر‭ ‬أنك‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬وبالفعل‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬قناعتي‭ ‬التي‭ ‬جعلتني‭ ‬اليوم‭ ‬أرفض‭ ‬لقب‭ ‬صماء‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬اختلافنا‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭ ‬يزيدنا‭ ‬كمالا‭ ‬وجمالا‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا