تأتي خطوة إعداد الهياكل في أي مؤسسة في سلم التخطيط في مرحلة لاحقة.. إذ تكون الصورة التدريجية العامة بالشكل التالي:
* الرؤية
* الأهداف
* الإجراءات والهيكلة
* التقويم
مع الاختلاف الطفيف بين شكل وآخر من أشكال التخطيط للنموذج الذي طرحناه.
ولذلك عندما نتحدث عن الهيكلة التنظيمية للمسارح في هذه الندوة، فإننا يجب أن نتعدى بديهية المراحل الأولى من التخطيط للمنشأة المسرحية، وإلا فلا ينبغي الخوض في التنظيم الهيكلي بلا رؤية ولا أهداف واضحة. لذا أرى أن أبني الطرح على أساس وجود قاعدة رؤيوية واضحة للمنظمة المسرحية وبالتالي نقيّم وضع الهيكلة وشكلها المطلوب.
فعندما نتكلم عن الرؤية والمشروع البعيد فإننا نستحضر الرؤى الكبرى في المسرح، مثل ستانسلافسكي الذي كانت رؤيته كيف يعد الممثل، وبريخت ومشروعه في إيجاد مسرح تحريضي يكسر الوهم، ومايرهولد وهو يؤسس فكرة المشهدية والتعبير الحركي بالجسد وعندما يقدم جروتوفسكي فكرة المختبر المسرحي لصقل مهارات وشخصية الممثلين والبيئة المسرحية وغيرهم.
وفي الواقع الذي نلمسه في مؤسساتنا المسرحية تتلاطم أمامنا صورة غامضة لطبيعة هوية المسارح العربية والخليجية بشكل أخص مع احترامنا لكل الجهود المبذولة.
ففي الواقع تحاول معظم المسارح أن تطرح كل ما في جعبتها من فنون المسرح لترضي جميع الأذواق والثقافات والأعمار، فنجد المسرح يخوض مرة في التجريب وأخرى في الكوميديا التجارية وأخرى في مسرح الطفل وأخرى في مسرح الشارع وأخرى.. وأخرى.
فهل المطلوب من كل المؤسسات المسرحية أن تفعل كل شيء في فن المسرح نوعا وكما؟؟ وكأننا نحن من سينقذ العالم من كل شيء؟
هذا المنظور هو الذي يدفع مؤسساتنا المسرحية إلى أن تضع خططها على أساس التنوع والتصدي لكل الفنون المسرحية فتقتحم ميادين مسرح المهرجانات والمناسبات والأعياد والصيف والربيع والإجازات ويتصدى المخرج الواحد لأكثر من نوع بثقة كبيرة، وكأن المهم أن نسد الفراغ!!
وبالتالي تقوم المسارح بتنظيم هياكلها المسرحية على أساس التنظيم الإداري البحت بغض النظر عن الرؤية الصلبة والتي غالبا ما تكون غائبة عن المسرح، فهناك لجان متعددة لتنظيم الحالة الإدارية وليس الحالة الفكرية، فنؤسس لجانا للتدريب ولجانا للثقافة ولجانا للعضوية ولجانا لمشاهدة العروض وتقييم النصوص ومسرح الطفل وغيرها، والسؤال على ماذا تم بناء كل تلك اللجان؟
وأرى أنه من المهم الرجوع إلى ما كتبه محمود الماجري في كتاب «مسارات نحت الذات في المسرح التونسي» أو «مغامرة الفعل المسرحي في تونس» لمحمد المديوني، أو «تجارب جديدة في الفن المسرحي» د. سمير سرحان، لنقرأ ذلك العمق التقييمي لشكل المسرح وتطوره وترقيه.
وحتى نضع الحروف على النقاط، سنحاول طرح العديد من الأسئلة وهي نفسها الخطوط التنظيمية التي نحاول الإسهام بها لبلورة شكل منظم للمؤسسة المسرحية. وسوف يتم التركيز على تقييم العمل التنظيمي الهيكلي في داخل المؤسسة المسرحية بعيدا عن الكلام في علاقة المؤسسة المسرحية بوزارة الثقافة أو الجهة التابعة لها في أي دولة ما.. فالهدف هو كيف يعمل ويخطط المسرح من نفسه لنفسه بعيدا عن أعذار النقص والمحبطات والمعوقات الخارجية.
ما حجم المؤسسة المسرحية؟
هل مؤسستك المسرحية هي مسرح وطني له موارده المادية والبشرية الضخمة أم هو مسرح أهلي ذو ميزانية صغيرة محدودة أو هو مؤسسة تجارية صغيرة الحجم بدون موارد مالية.
هذا السؤال مهم جدا، حيث ان العمل بقدر المتاح ذكاء وحكمة، ولا يعني ذلك التنازل عن الطموح، ولكن التركيز هنا له أهميته القصوى في طريقة الطرح والتسويق والتخصص. هناك مسارح تشتكي من ضعف الإمكانات ومع ذلك تريد العمل في كل شيء وفي كل المناسبات، ولذلك تتنازل عن طموحات كثيرة حتى يتم تقطيع الكعك لجميع المخرجين طوال خطة السنة.
ما التوجه الفني للمؤسسة؟
هل تتوجه المؤسسة للتجريب أو المسرح الجماهيري أو مسرح الطفل؟ والحقيقة أنه لا مانع من التنويع ولكن الأصل أن يرسم المسرح له الخط الأساس والأولوية لتوجه محدد تصب كل جهوده من أجله خاصة إذا كان المسرح محدود الإمكانات والموارد، فعندما نطالع المسارح الأوروبية المميزة نشهد ظاهرة التخصص لديها بشكل بارز جدا ، فهناك مسارح الشارع ومسرح للتجريب ومسرح للعرائس ومسرح صامت، بل إن هناك مسارح متخصصة في فن «مسرح الأصابع» Finger theater فهل يوجد لدينا هذا الحس من التخصص، ولعل البعض يفضل كذلك أن يتخصص في ستانسلافسكي أو جروتوفسكي أو بريخت في المسرح الملحمي، أو مسرح آرتو وغيرهم، وإن كانت تلك المذاهب تم تجاوزها ودمجها وذوبانها مع غيرها، ومع احترامي لجميع مسارحنا في البحرين إلا أن أقرب المسارح لهذا الفكر هو مسرح الصواري الذي ظل صامدا على خط التخصص في مسرح التجريب من تأسيسه إلى الآن.
وعلى سبيل المثال نجد المسرح الحي في أمريكا يتخصص في تقديم النصوص الأمريكية الطليعية، ويؤسس لفكرة التخلص من الديكور والمكياج والأزياء ومرجعيته في الفكر هو أنطوان آرتو. تأملوا معلي هذا التركيز الجاد هو الذي يقدم أنموذجا متميزا في المسرح، فكلما كانت نظرة المؤسسة المسرحية محددة دقيقة متخصصة كانت أقرب إلى الإبداع النوعي، وليس شرطا في التجريب ولكن في أي مجال مسرحي كان.
هل هو مسرح هاو أو متفرغ محترف؟
هل نحن من أهل الفن المتفرغين الذين نذهب كل يوم إلى المسرح من الساعة الثامنة إلى العصر، نتدرب ونكتب ونصنع ونتناقش، أو نحن موظفون لا نعطي للمسرح إلا بمقدار ما بنا من طاقة بعد نومة القيلولة في حدود الساعتين من البروفات وبعض النقاشات الخفيفة.
هل ندرك حجم مشكلة التفرغ للمسرح كونه المصدر الأساس للفنان المسرحي ومصدر رزقه؟! نحن في العالم المشرقي والخليجي تحديدا نعيش حالة من الاستقرار الوظيفي يجعل الفن والمسرح في ثانوية أولوياتنا ولذلك لا يتفرغ الفنان المسرحي للمسرح كونه حياته ومصير رزقه، ولذلك يمارس المسرح للمناسبات والمهرجانات، ولا أعني بذلك التقليل من بعض التجارب المسرحية ولكن على مستوى تقييم مؤسساتنا المسرحية فإن العمل المبذول فيها لا يتجاوز شكل المؤسسات التطوعية غير المتفرغة. ومن المهم الرجوع لكتاب «التمثيل خارج دائرة الاحتراف» لعوني كرومي.
هل المسرح يعمل على ديمومة المشروع المسرحي؟
ونعني بذلك العمل على تأسيس حالة مسرحية مستمرة طوال العام والأعوام وليس مشروع مسرحية تبدأ وتنتهي في موسم مسرحي واحد، فالمشروع المسرحي المتقدم هو ما نشهده في عدة مسارح عالمية وبعضها عربي في تطور الحالة المسرحية واستمراريتها ووصولها إلى العالمية بسبب هذه الميزة.
في عام 1966م قدم المخرج بيتر شومان صاحب مسرح الخبز والدمى عرضا عن حرب فيتنام، وظل إلى يومنا هذا يعيده بصيغ مختلفة عن عدة قضايا للدفاع عن حقوق الأرض المستلبة عند الشعوب، لم يتوقف ولم يمت العرض أبدا، ومازال الرجل يعمل وهو بعمر التسعين سنة.
إن مشكلتنا الحاضرة في مسارحنا الأهلية هو أننا نعمل لإعداد مسرحية وليس مشروع مسرحي، فالمسرحية تنتهي بانتهاء المناسبة أو المهرجان، ولكن المشروع المسرحي له أبعاد أكبر، وتخيلوا معي لو قرر مجلس إدارة المسرح أن يقدم عرضا مسرحيا يستمر طوال العام ويرفع سقف طموحاته ليقرر أن عدد عروضه لا تقل عن 10 عروض على سبيل المثال، فكيف ستكون آليات العمل لهذا المشروع وكيف ستخدم هيكلة المسرح هذا المشروع، بعكس لو كان المجهود لتقديم عرض واحد في يوم واحد في مهرجان واحد.
وبرأيي المتواضع فإن الرواد لهذا الفكر في عالمنا العربي – فيما يخص المسرح الجاد والنوعي – هم الفنانون التوانسة وكذلك تجربة المخرج الكويتي سليمان البسام مع النصوص الشكسبيرية مع تقديري لكل التجارب الأخرى التي لم أطلع عليها.
من يوجد على رأس هرم المؤسسة المسرحية؟
خبرة عدد السنوات لا تكفي لقيادة المسرح، نحتاج لعقلية مسرحية ثاقبة الرؤية تستطيع القفز بالمسرح لمناطق حيوية متطورة.
عندما تولى المرحوم علي بن عياد الفرقة البلدية في تونس في الستينات كان يعمل على تونسة هذا الفن بعد أن رحل الاستعمار، لذا بدأ يؤصل ويؤسس الشباب التونسي على الفكر المسرحي ويستفيد من الفكر الفرنسي الذي تأثروا به، فوضع لمساته في الإخراج وراهن على الطاقات التونسية من الفنانين في الديكور كما ألغى فكرة ضرورة فتح وإعلاق الستار المسرحي وقدم رؤى مختلفة لطريقة تحرك الممثلين، ولذلك يعتبر بن عياد من أهم محطات المسرح في العالم العربي.
وهكذا يجب أن تكون قيادات مسارحنا واعية مثقفة مطلعة على الجديد، وإلا لن نأتي بجديد في مشروعنا المسرحي.
الخلاصة
عندما نجيب على كل تلك الأسئلة سندرك حجم التشتت الذي نقع فيه ونحن نرتب هياكلنا المسرحية ونعرف أننا غالبا ما نتوه في خارطة طريقنا المسرحي.
{ كاتب ومخرج
مسرحي بحريني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك