ساد سوق الطاقة العالمية في 2024 حالة من التقلب وعدم القدرة على التنبؤ طيلة الأشهر المتتالية الماضية وحتى أواخر أغسطس الماضي وسط ضغوط متضاربة على العرض والطلب. ففي حين ارتفعت الأسعار جراء التوترات الجارية في المنطقة، إلا أنه وبحلول منتصف سبتمبر، عاود سعر تصدير خام برنت إلى الانخفاض؛ حيث أفادت وكالة «بلومبرج» أن «التوقعات الأكثر تشاؤمًا» تتمحور حول انخفاض هذه الأسعار أكثر لتصل إلى 60 دولارًا للبرميل بحلول نهاية عام 2024.
وقام خبراء الاقتصاد الغربيون بتقييم هذه التطورات، ودراسة تأثيرها في تخفيف مستويات التضخم في اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا، فذكر «تيم كالين» من «معهد دول الخليج العربية في واشنطن» أن «الانخفاض الحاد» في الأسعار يثير «تحديات صعبة» أمام أعضاء أوبك بلس، بما في ذلك دول الخليج العربي.
ففي 26 أغسطس، وعقب موجة من الاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان وصل سعر تداول خام برنت فوق الـ 79 دولارًا للبرميل، وجاء هذا السعر دون الـ 88 دولارًا للبرميل الذي تم تداوله في أوائل يوليو، ولكن مع حلول 10 سبتمبر وتأثر السوق بـ «المخاوف المتزايدة جراء تأثير تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين والولايات المتحدة»، انخفض سعر خام برنت إلى ما دون مستوى 70 دولارًا للبرميل للمرة الأولى منذ 2021.
وفي تفسيرها لسبب حدوث ذلك، أوضحت «روكساندرا يورداش» من شبكة «سي إن بي سي» أن أسعار النفط قد تأثرت بالانتعاش الضعيف بعد جائحة «كوفيد-19» وزيادة الطلب من الصين والولايات المتحدة. بينما فسر هذا الانخفاض «وارن باترسون» رئيس استراتيجية السلع في شركة «آي إن جي»، بأن سوق الطاقة الدولية قد بات «محصنًا بشكل متزايد» ضد التوترات بالشرق الأوسط، خاصة وأنها «لم تؤثر بعد في إمدادات النفط» من كبار المنتجين في المنطقة.
لكن هذا الانخفاض المفاجئ أثار مخاوف الخبراء؛ حيث أشار «كريج ستيرلينج وجرانت سميث» من «بلومبرج» إلى أن مصارف «جي بي مورجان» و«سيتي جروب» و«ليجال آند جنرال»، لاحظت احتمالات لهبوط الأسعار نحو 60 دولارًا للبرميل في عام 2025». وقد أكد «بن لوكوك» رئيس قسم النفط في شركة تجارة السلع الأساسية «ترافجورا»، أن الانخفاض إلى هذا المستوى يرجح أن يحدث «في وقت قريب نسبيًا».
وقد زادت المخاوف مع ظهور توقعات منظمة أوبك، ووكالة الطاقة الدولية، وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية بشأن آفاق العرض والطلب العالمي على النفط، فإن متوسط توقعاتهم تشير إلى أنه من المرجح أن يتجاوز نمو العرض على النفط نمو الطلب في عام 2024 وحتى 2025، خاصة وإذا مضى أعضاء «أوبك بلس» قدمًا في مساعيهم لتعزيز مستويات إنتاجهم. وأوضح «لستيرلينج وسميث» أنه من المقرر أن «يتزايد إنتاج النفط العالمي بمقدار 1.5 مليون برميل يوميًا العام الحالي والمقبل»، مع مواكبة هذا لمزيد من استخراج النفط الصخري بالولايات المتحدة؛ مما سينتج عنه تجاوز العرض للطلب بأكثر من 50%.
وأشار «كالين» إلى أوجه التشابه بين سياق سوق النفط الحالي و«انهياره عام 2014»؛ حيث انخفضت الأسعار من 125 دولارًا للبرميل لتصل في النهاية إلى أدنى مستوى لها عند 30 دولارًا للبرميل بحلول أوائل 2016، والذي كان نتيجة لأربعة عوامل مجتمعة وهي: «النمو السريع في الناتج الأمريكي»، وتباطؤ الطلب العالمي بعد التعافي من الأزمة المالية العالمية خلال الفترة 2008-2010، وزيادة مستويات المخزون، و«التوقعات المُعدلة بشأن استجابة أوبك لانخفاض الأسعار»، وهو ما حدا بـ «كالين» إلى إبداء تخوفه من كيفية تكرار كل هذه الديناميكيات إلى حد ما في 2024، وإن لم تكن بدرجات متطرفة.
وقد أبرز كالين وخبراء غربيون تأثيرات انخفاض الأسعار المستقبلية والإجراءات المالية المرتبطة بذلك على الاقتصادات المختلفة حول العالم. بالنسبة إلى الاقتصاديات الغربية، فتشير الدراسة التي أعدتها «بلومبرج إيكونوميكس»، إلى أن انخفاض أسعار النفط بمقدار 20 دولارًا بين يوليو وسبتمبر 2024 «سيسهم في تقليص معدل التضخم بنسبة 0.4 نقطة مئوية في الولايات المتحدة وأوروبا في أواخر 2024 وبداية 2025». وأفاد «تيم درايسون» رئيس قسم الاقتصاد في «ليغال آند جنرال إنفستمنت مانجمنت»، أن انخفاضات إضافية في أسعار النفط ستكون «إيجابية» من خلال «مساعدة البنوك المركزية على العودة إلى أوضاعها. ويتفق مع هذا الرأي «كريستوف رويل» كبير المحللين بمركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا، الذي أشار إلى أن هذا الأمر «يخفف الضغط عن التضخم، وهو بالضبط ما تحتاجه البنوك المركزية الآن».
وبالنسبة إلى أهم المنتجين داخل أوبك، فإن هذا التقييم يبدو غير ذي جدوى. وكنتيجة كون السعودية أكبر مصدر للنفط الخام، فإنه بناءً على فرضية أن متوسط أسعار النفط السنوية ستكون أقل بقليل من 78 دولارًا للبرميل ومعدل إنتاج يصل 9.7 ملايين برميل يوميًا، يتوقع صندوق النقد أن تصل إيرادات النفط السعودية إلى حوالي 200 مليار دولار في 2025. ومع ذلك، أوضح كالين أن معدل الإنتاج الحالي الذي بلغ 8.8 ملايين برميل يوميًا في يونيو 2024 هو أدنى فترة إنتاجية مستدامة – باستثناء الأزمات الكبرى مثل جائحة كورونا – منذ 2007. وعلى ذلك، فإذا كان متوسط سعر النفط المتوسط في 2025 هو حول 70 دولارًا للبرميل، فإن إيرادات النفط السعودية ستكون أقل بنسبة 5% من التوقعات التي قدمها صندوق النقد، وإذا بقيت معدلات الإنتاج عند حوالي 9 ملايين برميل يوميًا، فإن الإيرادات ستكون أقل بنسبة 9% من التوقعات.
وبالنسبة إلى أعضاء أوبك الآخرين، الذين أوضح «كالين» بأنهم أكثر «تفاؤلًا» من غيرهم بشأن مستقبل أسعار النفط – لاسيما مع توقع زيادة الطلب بمقدار 2.1 مليون برميل يوميًا في 2024 وزيادة إضافية بمقدار 1.8 مليون برميل يوميًا في 2025 – ؛ مما لاح بمؤشرات إيجابية مرتبطة بعدم التوازن بين العرض والطلب في نهاية 2024 وبداية 2025، وبالأخص حين وافق أعضاء أوبك بلس في بداية سبتمبر على تمديد خفض الإنتاج وتأخير الزيادة المجدولة في الإنتاج بمقدار 180,000 برميل يوميًا، والتي كان من المقرر أن تبدأ في أكتوبر. كما وصف «ستانلي ريد» من نيويورك تايمز هذا بأنه «تراجع عن الخطط التي أُعلنت في يونيو لبدء تخفيضات إنتاجية بأكثر من مليوني برميل يوميًا» والتي كانت تهدف إلى «المساعدة في تعزيز أسعار النفط وارتفاعها».
وداخل أوبك، تم الاعتراف بمصالح أعضائها المتضاربة، حيث أشار كالين إلى أن بعض الأعضاء «يعملون بالفعل على تجاوز حصصهم بينما يريد آخرون زيادة الإنتاج بسبب الاستثمارات الكبرى التي قاموا بها في توسيع الطاقة الإنتاجية»؛ حيث أنتجت العراق وكازاخستان معدلات تفوق حصصهم الشهرية»، في حين أن الانقطاعات في الإنتاج في ليبيا قد «أثرت في المشهد الأساسي للعرض والطلب»، جراء «مواجهات سياسية» قد «تجعل إنتاج البلاد البالغ نحو 1.2 مليون برميل يوميًا في خطر» ومعه كذلك مستقبل إنتاج أوبك.
ومن المتوقع حاليًا أن تستمر تأخيرات أوبك حتى ديسمبر، ثم قد تدخل مجددًا حيز التنفيذ حتى نوفمبر 2025، وبالرغم من أن كالين قد اعترف بأن قادة التكتل قد «تأنوا» في تصريحاتهم «لتجنب الإشارة إلى محاولة دعم هدف سعر معين»، فقد أكد أهمية أن منتجي النفط غير الأعضاء في أوبك مثل الولايات المتحدة والبرازيل وكندا وغيانا قد «أضافوا بشكل كبير إلى إمدادات النفط العالمية» خلال السنوات الماضية؛ مما أدى إلى «احتمال ظهور فائض في العرض». بينما تتوقع الوكالة الدولية للطاقة وإدارة معلومات الطاقة أن ينخفض نمو إنتاج النفط لدى غير الأعضاء في أوبك في بقية 2024 و2025، وتساءل كالين عما إذا كان هذا التحول قد يضغط بشكل أكبر على منتجي أوبك.
على العموم، أثار كالين مسألة «مدى سرعة التغييرات في وضع سوق النفط» واقترح أن الأسعار قد «تتعافى بسرعة» في حالة حدوث اضطراب كبير في مصدر تصدير رئيسي آخر أو إذا قرر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، كما هو متوقع، إصدار تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة. وتشير توقعات المعاهد والمنظمات الغربية بشأن وقوع انخفاضات مقبلة في سعر النفط الخام إلى حوالي 60 دولارًا، جنبًا إلى جنب مع قرار أوبك بلس تأخير تنفيذ الزيادات المقررة في الإنتاج – والذي أشار إليها «ريد» بأنها تهدف إلى تغيير «المشاعر السلبية» حول استقرار سوق الطاقة العالمي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك