ونحن على مقربة من إتمام عام كامل من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية التي أعقبت الهجمات المباغتة التي قامت بها حركة حماس على جنوب فلسطين المحتلة في السابع من أكتوبر الماضي تحت عنوان «طوفان الأقصى»، يكون من المهم مراجعة حسابات المكاسب والخسائر لأطراف الصراع الدامي في المنطقة وذلك لإعادة النظر في جدوى المعارك التي اتسع نطاقها كما كان متوقعا، نحو استشراف ما قد يحمله المستقبل لنا ولمنطقتنا!.
كانت هجمات حماس قاسية على الدولة العبرية فقد خلفت ما لا يقل عن 1200 قتيلة وقتيل إسرائيلي من المدنيين بالإضافة إلى 715 من جنود الجيش و66 شرطيا وشرطية خلال الشهور التي تلت الهجمات وحتى اللحظة بحسب إحصاءات صحيفة The Times of Israel المنشورة يوم 19 سبتمبر الماضي.
أبدأ في هذا المقال بالطرف الإسرائيلي، صحيح أنه في هذه الحرب يبدو وكأنه في حالة «رد فعل» ، إلا أن المزيد من التدقيق في حقائق الصراع منذ فشل اتفاقية أوسلو للسلام في تسعينيات القرن الماضي وصعود تيار اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو لمقاعد السلطة يفضى إلى نتيجة واحدة واضحة، وهى أن المتسبب الأول والأخير في تفجير هذه الأوضاع هو هذا التيار الذى صمم سياسة من شأنها جعل إقامة دولة فلسطينية أمرا مستحيلا، ليس فقط بسبب التعنت في المفاوضات الهشة للسلام، وفرض سياسات الأمر الواقع، ولكن أيضا بسبب الاستمرار في بناء المستوطنات في الضفة الغربية بشكل لا يمكن أمامه الثقة في النية الإسرائيلية فيما يتعلق بالسلام المزعوم الذى ادعى أن هذا التيار اليميني وحلفاءه من السياسيين المتطرفين دينيا لم يكونوا في أي لحظة خلال الثلاثين عاما الماضية صادقين بخصوصه، بل قام هذا التيار وجماهيره بهندسة سياسية واقتصادية وأخرى متعلقة بالبنية التحتية من أجل إنهاء أمر الدولة الفلسطينية إلى الأبد وترحيل مشاكل الشعب الفلسطيني إلى دول أخرى آملين في التخلص منهم بشكل نهائي!.
وقد وصل الأمر ذروته بوضوح حينما قام السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان، بتمزيق ميثاق المنظمة الأممية في قاعة الجمعية العامة على مرأى ومسمع من الجميع في إشارة صريحة لحقيقة هذا التيار السياسي الذي يمثل السلطة في إسرائيل، والذي لا يعير أي أهمية بل ويحتقر بوضوح التنظيمات الدولية والقانون الدولي.
لقد تكبدت إسرائيل العديد من الخسائر الفادحة، والتي كان من أهمها:
أولا: الضربة الأبرز لإسرائيل هي خسائرها البشرية سواء بين السكان المدنيين أو العسكريين، فالأرقام المذكورة في أول فقرة في هذا المقال ليست هينة على دولة تعودت دائما على حماية مواطنيها ومواطناتها ولطالما تباهت بقوة جيشها. وبشكل حسابي بحت فهذه هي أكبر خسارة بشرية لإسرائيل منذ حرب أكتوبر 1973، أي في نصف قرن كامل في دولة لا يتعدى عمرها الرسمي ثمانية عقود! هذه الخسائر البشرية لها ثمن معنوي كبير، فكل من زار إسرائيل مؤخرا عبَّر عن الصدمة والقلق والإحباط والاكتئاب الذى يعيش فيه المواطنات والمواطنون الإسرائيليون وهو ما دفع عددا كبيرا منهم لبدء إجراءات هجرة دائمة أو مؤقتة من الدولة العبرية التي لطالما ادعت دوما أنها تمثل وطنا آمنا لكل يهود العالم!.
أما الخسارة الثانية فقد تمثلت في تلك الصفعة المخابراتية القوية التي تلقتها إسرائيل في يوم السابع من أكتوبر وهي الصفعة التي لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم. هذا الفشل المخابراتي والأمني والعسكري ما زالت أصداؤه تُسمع وتُرى في العلاقة المشروخة بين قيادات الجيش والحكومة وكذلك بين هذه القيادات والشعب المستاء من هذا الفشل المريع الذي ما زال بلا حساب سياسي بسبب تعمد نتنياهو إطالة أمد الحرب للتغطية على هذا الفشل وترحيل وقت الحساب السياسي للرجل الذي كان دائما ما يوصف بأنه الأقوى في إسرائيل خلال العقود الثلاثة الأخيرة! بل ويمكننا أن نرى أيضا شرخا في العلاقات الأمنية – العسكرية وسط تبادل الاتهامات بين هذه القيادات بشأن مسؤولياتها حول أحداث 7 أكتوبر!.
فيما تمثلت الخسارة الثالثة في علاقات إسرائيل الخارجية؛ حيث انكشف أي غطاء أخلاقي أو سياسي كانت تحاول الدولة العبرية أن تلتحف به أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، لدرجة أن الأمر وصل إلى تراشقات سياسية ودبلوماسية بين إسرائيل والكثير من دول أوروبا ولا سيما إيرلندا وإسبانيا! كذلك فقد تحول التعاطف المبدئي في الرأي العام العالمي ولا سيما الغربي بعد هجمات 7 أكتوبر بحجة أن إسرائيل في حالة دفاع مشروع عن النفس إلى هجوم شرس بعد أن تهاوت حجة الدفاع عن النفس أمام المذابح المريعة التي ارتكبتها – وما زالت– الدولة العبرية بحق المدنيين والمدنيات في غزة، ويكفى القول بأن شباب الجامعات في دولة حليفة لإسرائيل مثل الولايات المتحدة أصبحوا يعلنون صراحة ليس فقط انتقادهم للسياسات الإسرائيلية بل وصل الأمر إلى تحدى شرعيتها من الأساس وهو أمر ستظل إسرائيل تدفع ثمنه سنوات وربما عقودا قادمة أمام هذه الأجيال الصغيرة التي تشكل وعيها على العالم الخارجي بواسطة صواريخ وجرافات ودبابات وقنابل وأسلحة محرمة يتم استخدامها ضد العزل في غزة!.
أما الخسارة الرابعة، فهي تلك المتعلقة بانقسام اليهود في العالم وتحول جزء معتبر منهم ضد الدولة العبرية وشرعيتها! فبعد جرائمها بحق الشعب الفلسطيني خلال الشهور الماضية، قام العديد من يهود العالم سواء بشكل فردى أو بشكل منظم من خلال العشرات من المنظمات اليهودية المناهضة للدولة العبرية بالتعبير عن غضبهم ورفضهم ليس فقط لسياسات إسرائيل، بل وحتى التعبير عن رفضهم لشرعية وجودها من الأساس، وهو ما فضح بقوة ما حاولت الدبلوماسية والدعاية الإسرائيلية الدولية دائما الترويج له منذ بداية القرن العشرين بأن هذه هي دولة اليهود في العالم كله! فهذا العالم أصبح يرى بوضوح أن الكثير من ادعاءات معاداة السامية التي كانت تستخدم دائما لإسكات من ينتقد إسرائيل، ليس لها محل من الإعراب في هذه الحالة التي يعبر فيها الكثير من اليهود عن رفضهم أن تكون الدولة الصهيونية معبرة عنهم سواء بشكل قومي أو بشكل ديني!.
{ أستاذ مشارك العلاقات الدولية
بجامعة دنفر الأمريكية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك