لا ننكر براعة اللوبي الصهيوني في أمريكا «إيباك» وأخواتها وقدرتها الهائلة في جمع الأموال وصرفها لدعم إسرائيل، لكننا نظن أن هذا اللوبي الأخطبوطي يمر بـ«أزمة هوية»، وأن حياته أصبحت معقدة، وخاصة بعد كل هذه التحولات اللافتة التي تحدث في النظام السياسي والمجتمع الأمريكي، وبعد إطلاق ائتلاف من جماعات المصالح التقدمية مبادرة تسمى «ارفض إيباك».
وفقا للاستطلاعات- ورغم التأثير الأكبر لـ«اللوبي الصهيوني» في الانتخابات الأمريكية – إلاّ أن هناك حسابات تقول إنّ أصوات الأمريكيين العرب هذه المرّة – إضافة إلى أقليات أخرى، قد يكون لها تأثير في «الولايات المتأرجحة» والتي توصف بولايات «ساحة المعركة».
وبعد، دعونا نتساءل عن الأسباب التي تجعل نخبة الولايات المتحدة السياسية تتغاضى عن مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط من أجل دعم إسرائيل دعما مطلقا؟
وحقا، فإن هذه الإجابة لا تقف عند الأبعاد الكامنة في العلاقة الدينية الوثيقة التي جمعت بين الحركة المسيحية الصهيونية في أمريكا بالحركة الصهيونية، وإنما تجمعها أيضا التقاء المصالح السياسية والإستراتيجية والاقتصادية والتاريخية وهي أمور لا يمكن التغاضي عنها.
وكما شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا في شعبية إسرائيل، وخاصة منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، استقطبت القضية الفلسطينية مزيدا من التعاطف داخل قطاعات صاعدة في الحزب الديمقراطي، مثل: الشباب، والقوى التقدمية، والأقليات العرقية، وحتى داخل الحزب الجمهوري، وارتفاع وتيرة الأصوات المتزايدة المنادية بفك الاشتباك الأمريكي مع إسرائيل والصراع العربي الإسرائيلي، وتقليص الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وإعطاء الأولوية للقضايا الداخلية والمصالح الوطنية، مع تفضيل شريحة مهمة من الناخبين المستقلين أصلا لسياسة خارجية انعزالية وموقفًا أمريكيًا محايدًا في الصراع العربي الإسرائيلي.
ولقد أدت الأحداث إلى تأسيس تحالف واسع بين عديد القوى الرافضة للدعم الأمريكي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والمطالبة بوقف كامل لإطلاق النار، وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ومقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل.. إلخ.
يضاف إلى ذلك نجاح الحركة الطلابية في الجامعات الأمريكية الآني والنسبي (وبالذات جامعات النخبة التي تحكم وتخرج الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة والجيل القادم من القادة) والتي مثلت ثورة غير مسبوقة في عالم الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وسيكون لها بعدها، بعد اكتشاف الوجه الحقيقي البشع لإسرائيل وما تم من سلب قديم/ جديد للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
لقد احتاج التحول في الرأي العام من الكمي إلى النوعي إلى صاعق مفجر، جاء على شكل حرب الإبادة والفظاعات الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة أساساً (والضفة الغربية والقدس أيضاً) فتفجرت المسألة، الأمر الذي ساهم في إحداث تحول نوعي في الجدل السياسي والمجتمعي الأمريكي حول القضية الفلسطينية، إذ لأول مرة تصبح مسألة دعم إسرائيل قضية خلافية بين القوى السياسية في المجتمع الأمريكي.
ومن المتوقع أن يكون لهذه التطورات تأثير في السياسات الخارجية الأمريكية على المديين المتوسط والبعيد، وخاصة مع خروج الأجيال الأكبر سنا والأكثر ولاء لإسرائيل من المجال السياسي، وصعود الأجيال الأصغر إلى المواقع القيادية.
المطلوب بعد هذا الانفضاح العالمي هو استثماره بطريقة تضمن ديمومته والبناء عليه منذ اللحظة وصولا إلى مأسسته، وهذه تكاد تكون الطريقة الوحيدة التي من شأنها تكريس وتعزيز وترسيخ الصورة القبيحة للكيان الصهيوني، وبالتالي الانتصار للحقيقة الفلسطينية على الرواية الإسرائيلية، بعد أن أصبحت هذه الحقيقة ولأول مرة تناطح وتفكك السردية الإسرائيلية التي طالما هيمنت على المجتمع الأمريكي منذ تأسيس الدولة الصهيونية.
وعملية الاستثمار لكل ذلك الانفضاح مسؤولية فلسطينية في الأساس، لا تأتي ولا تؤتي أكلها إلا بدعم ضروري من المنظومتين العربية والإسلامية وجميع القوى الرسمية والشعبية العالمية الشاهدة على ذلك الانفضاح.
وغني عن الذكر أن عملية الاستثمار المنوه عنها تحتاج، أولاَ واخيراً، إلى إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، بوحدة وطنية فلسطينية، تقوم على قاعدة من النضال السياسي والدبلوماسي «الناعم»، بالتوازي مع مختلف أنواع المقاومات غير الناعمة (اقرأ: الكفاح المسلح) التي لطالما استخدمتها حركات التحرر الوطني في معاركها ضد الاحتلال والاستعمار والاضطهاد بمختلف أشكاله.. وبالتأكيد وفق ما أقرته القوانين والشرائع الدولية.
وكما تلعب الصهيونية المسيحية دورًا حيويًا في توجيه السياسة الغربية عموما والأمريكية خصوصا نحو دعم إسرائيل بشكل غير محدود، ونصرتها ظالمة أو ظالمة!؛ ليس هناك بد من إيجاد وتقوية لوبي فلسطيني/عربي/إسلامي (بالتعاون مع الشرفاء الأمريكيين) في الولايات المتحدة الأمريكية لإزالة الآثار السلبية التي خلقها اللوبي الصهيوني الأمريكي –وما أكثرها- في غير صالح قضايا العرب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ويبقى السؤال الأزلي: متى نؤسس ونمؤسس لجنة عربية تواجه لجنة اللوبي الصهيوني في أمريكا أو الـ«إيباك» وأخواتها، وخاصة بعد استحواذ القضية الفلسطينية على المزيد من مساحات التأييد في الرأي العام الأمريكي، لا بل والعالمي أيضا؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك