في أوائل القرن الثامن عشر(1703م) أسَّس القيصر الروسيّ بطرس الأول مدينته القيصرية (سانت بطرسبورغ) التي اشتقت تسميتها من اسمه. لقد كانت هذه المدينة «الأسطورية» هي نافذته الثقافيّة المطلة على أوروبا، وكان حلم القيصر أن يجعلها مدينة بذائقة ثقافيّة أوروبيّة(باريسيّة)؛ بسبب تأثر النخبة الأرستقراطيّة والقياصرة الروس بالتحديد بفرنسا. ورغم تعدّد تسميات هذه المدينة الاستثنائيّة من سانت بطرسبورغ إلى بتروغراد ثم لينينغراد ثم عودة إلى اسمها التأسيسيّ الأول (سانت بطرسبورغ) إلا أنّها اكتسبت أبعادًا أسطورية أبعدتها عن مرجعيتها التاريخّية الحقيقّية!
كتب الناقد السيميائيّ الروسيّ الشهير يوري لوتمان عن رمزية هذه المدينة في كتابه «سيمياء الكون»؛ إذ تشتمل هذه المدينة كما يرى على بعدين ثقافيين، البعد الأول المدينة اليوتوبيا، وهي المدينة التي شُيِّدَت بصفتها تحديًا للطبيعة وبوصفها انتصارًا للعقل على العناصر، والبعد الثاني هو الأساطير الأخروية للمدينة، تنبؤات الخراب وتنبؤات الهدم وحلول الطوفان (المدينة اللعنة). إنَّ مدينة سانت بطرسبورغ، كما يرى لوتمان، مدينة تتحدَّى آليات الزمن لأنَّها آلية سيميائية مركبة موِّلدة للثقافة، ولكنها لا تقوم بهذه الوظيفة إلا في الحالة التي تمثّل فيها بوتقة لنصوص وأسنن مختلفة وغير متجانسة هجينة ثقافيًا.
ورغم حداثة إنشاء هذه المدينة إلا أنَّ ثمَّة تاريخاَ ميثولوجيًا أي أسطوريًا، ارتبط بها منذ عهد التأسيس، والنشأة الأولى تشكَّل في مئات الأساطير والروايات الشفاهية التي رافقت مدينة سانت بطرسبورغ التي تحتمل هذه الثنائية المتناقضة (المدينة الجنة اليوتوبيا/ والمدينة اللعنة). وهي المدينة الاصطناعية التي جاءت في غاية التكوين الأسطوري! يقول أودوفسكي عن قصة إنشاء هذه المدينة: «بدأوا بناء المدينة، ولكن في كلّ مرة يضعون حجرًا، يبتلعه المستنقع، يرصون حجرًا على حجر، صخرة على صخرة، عمودًا على عمود، غير أنَّ المستنقع يبتلعهم وعلى السطح لم يكن سوى الطمي. أثناء هذا الوقت كان القيصر يشيّد مركبًا، ثم أتى القيصر الروسيّ بطرس الأول زائرًا: رأى أنَّ مدينته لا تنهض أبدًا من الأرض «لا تعرفون فعل أيّ شيء»، يقول لشعبه، وعلى إيقاع هذه الكلمات بدأ يرفع الصخرة ويقوم بتجميعها في الأجواء، بهذه الطريقة بنى المدينة برمتها، وبعد ذلك وضعها أرضًا».
يقول لوتمان عن الفضاءات المشهدية الطقوسية لهذه المدينة الثقافية «خاصية أخرى لبطرسبورغ هي تمسرحها، معمارية المدينة، الفريدة من نوعها بتماسك تجمعاتها الشاسعة التي لا يمكن أن تُقسم إلى بنايات لمراحل مختلفة كما هو الحال بالنسبة للمدن التي لها ماضٍ تاريخي، توِّلد الانطباع التام بأننا أمام ديكور مسرحي، هذه الخاصية تثير انتباه الأجانب وسكان موسكو على السواء. وإذا كان هؤلاء يعتبرون المدينة «أوروبية» فإنَّ الأوروبيين الذين اعتادوا التراكب الهندسي للطرز الرومانية والباروكية والكوتيك والكلاسيكية يظلون مندهشين من الجمالية الأصلية والغربية لهذه «التجمعات الشاسعة».
من المعالم الأساسية في هذه المدينة متحف الأرميتاج (هيرميتاج) الذي افتتحه القيصر الروسي نيقولا الأول في فبراير 1852 بجوار قصره الشتوي على نهر نيفا، وهو المتحف الأكبر في العالم في ضخامة مقتنياته من اللوحات الفنية العالمية لمشاهير الفنانين مثل ليوناردو دافنشي، ومايكل آنجلو، ورمبرانت، وسيزان، وفان جوخ، وغوغان، وبيكاسو، وماتيس وغيرهم، فضلاً عن المقتنيات الضخمة من المجوهرات التاريخيّة والذهب القديم لشرق آسيا. لقد أطلقت الإمبراطورة الروسية كاترينا الثانية اسم (أرميتاج) على هذا المتحف، وهي كلمة فرنسية تعني الخلوة أو المكان المنعزل في إشارة إلى عزلتها في هذا المكان بعيدًا عن قواعد البروتوكول القيصرية. وقد خضع هذا المتحف إلى تغيير كبير في حقبة الاتحاد السوفييتي تمثّل في ضمّ مقتنيات فنية جديدة إليه من خلال الاستيلاء على المجموعات الضخمة الخاصة بالنبلاء الروس والطبقة الأرستقراطية الروسيّة بعد الثورة البلشفية. ورغم أنَّ ستالين فرَّط في أكثر من عشرين ألف قطعة فنية استثنائية عن طريق بيعها إلا أنَّ متحف الأرميتاج بقي محافظًا على صدارته العالميّة الأولى. وهناك فروع كبرى لمتحف الأرميتاج في مدن عالمية مهمة مثل أمستردام ولندن، ولاس فيغاس وفيرارا بإيطاليا؛ الأمر الذي يؤشِّر على الأهمية الثقافيّة والحضارية الكبرى لهذا المتحف الذي يحتفظ في مخازنه بمجموعات ضخمة، ولا يعرض مقتنياته جميعها مرة واحدة. ولعلَّ زيارة إلى جسر الفنون في باريس تجعل المتلقي يدرك وبعمق التأثير الفرنسيّ والذائقة الفرنسيّة في هذه المدينة القيصرية التي أُسِّست لمحاكاة مدينة باريس حضاريًا إلا أنها اتخذت طابعًا استثنائيا مغايرًا لا يليق إلا بها!
أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث
المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك