زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لماذا أخاف من الظلام؟
بحكم انني عميل سابق للاستعمار لأنني عملت بالسفارة البريطانية في الخرطوم، ثم في شركة أرامكو النفطية في السعودية عندما كانت في معظمها تحت سيطرة الأمريكان، فإنني متابع شغف للصحافة البريطانية والأمريكية، وفي ذلك السياق شاركت عبر الانترنت في استفتاء نظمته صحيفة تايمز اللندنية حول أهم المخترعات والاكتشافات العلمية البريطانية، وكانت الصحيفة قد حصرت المنافسة بين اكتشاف لقاح الجدري واختراع أول كمبيوتر، ودراجة روفر الشعبية، واكتشافات مايكل فاراداي في مجال توليد الكهرباء، ثم المصباح الكهربائي الذي طوره العالم الكيميائي البريطاني جوزيف سوان (ومع هذا نجح الأمريكان في إقناع العالم بان توماس أديسون هو مخترع المصباح الكهربائي). وبداهة فقد منحت صوتي للمصباح الكهربائي، لأنني أكره الظلام بمعناه الحرفي والمجازي، وأحب التنوير بمعناه الحرفي والمجازي. في طفولتي في جزيرة بدين في شمال السودان كان الظلام سميكا وكثيفا بحيث كان في إمكانك ان تجلس في ارض خلاء وظهرك يستند إلى «الظلام»، حتى مصباح الجاز الأبيض او الكيروسين لم يكن يضاء باستمرار ترشيدا للإنفاق، أو لأن ضوءه يجذب العقارب. وكانت أمهاتنا وجداتنا يفاقمن خوفنا من الظلام بحكاياتهن المرعبة عن الغول والجن. وكان هناك ظلام الأمية والجهل والخرافات الذي كان يتحالف مع ظلام الليل ليجعل نهارنا ليلا شديد الحلكة. وكنا ونحن صغار نلعب في تلال رملية وكلما لمحنا وميض ضوء بعيد هربنا الى بيوتنا لأننا كنا نحسب ان الجن يحاولون استدراجنا الى مصدر الضوء، وكان ذلك الاستنتاج منطقيا لأن مصابيح الجاز لم تكن قادرة على الصمود امام أرق نسمة هواء وبالتالي لم يكن واردا ان واحدا أو أكثر من الإنس كان يحمل مصباحا يرسل وميضا يرى من بُعد، وانتقلت الى المدينة حيث كانت الشوارع مضاءة وتستطيع ان تقهر الظلام بضغطة خفيفة على زر صغير. والى يومنا هذا لا أنام إلا وبعض الضوء يتسلل من على بُعْد الى الغرفة التي أنام فيها. بعبارة أخرى ما زال بداخلي خوف طفولي من الظلام. حتى عندما أقود سيارتي في شارع ليست به إضاءة، أحس بضيق شديد رغم ان كشافات السيارة تعينني على استكشاف الطريق. وحقيقة الأمر هي ان الظلام ارتبط في مخيلتي بالخوف من المجهول، ولك ان تقدر حجم الخوف الذي يعشش داخل آدمي عاش معظم سنوات حياته مظلوما، والظلم صنو الظلام، ومعظم الظلم الذي أصابني كان مصدره الجهات التي كان مناطا بها توفير الأمن والأمان لي ولغيري، فليس أقسى على النفس من ظلم ذوي القربى، أي الحكومة التي ينبغي أن تعاملك كمواطن وتحرص على أمنك وراحتك، ففي وطني السودان فقدت وظيفتي ثلاث مرات لأن الحكومة لم تكن تحبني، وتم إيقافي من الكتابة في الصحف السودانية عدة مرات لنفس السبب، وعشت في الخليج أكثر من ثلاثين سنة لم أتعرض خلالها للتفنيش أو «التفتيش الأمني».
يعني صار الظلام يعني بالنسبة لي الأجهزة السرية مثل المباحث والمخابرات. هي بالطبع تؤدي المهام الموكلة إليها بتصيد ومراقبة وكمش ومطاردة ومضايقة المشاغبين، واعترف بأنني كنت وما زلت مشاغبا من وجهات نظر الأجهزة الأمنية، فقد ابتلى الله السودان بحكومات منتخبة وديكتاتوريات عسكرية كل واحدة منها «أنْيَل» من الأخرى، ولم أحس يوما ما بأن أياً منها تمثلني أو معنية بأمري وأمور غيري من المواطنين. وهكذا نشأت معارضا «محترفا». ورغم انني لم أكن قط معارضا من الوزن الثقيل إلا أنني أعرف ان لي ملفا محترما في أكثر من جهاز أمني، ومن ثم أخاف ان يأتوني بعد هبوط الظلام ويضعوني في زنزانة ليست بها إضاءة. ولكن الغريب في الأمر أنني صرت مدركا وأنا أسير في شوارع مدن حسنة الإضاءة أنها أي تلك المدن غارقة في الظلام.. المعنوي، وهو أشد قسوة من الظلام الناجم عن انعدام الضوء الطبيعي او الاصطناعي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك