تتواتر مقدمات وشواهد أننا بقرب عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة على الجبهة اللبنانية قد تنزلق بالتداعيات إلى حرب إقليمية مدمرة. لم يعد ذلك السيناريو مستبعدًا أو خطرًا مفترضًا تحاول أطراف دولية وإقليمية عديدة تحاشيه. إنه خطر ماثل رغم تعقيدات حساباته وفواتيره الباهظة.
كان الهجوم السيبراني، الذي استهدف أجهزة اتصال «حزب الله» وأسقط عشرات القتلى وآلاف المصابين إشارة بالغة الخطورة على ما قد يحدث تاليًا.
رغم الترويع في الشوارع والبيوت اكتشف اللبنانيون وحدة مصيرهم، تبرعوا بالدم وحافظوا رغم الفوضى على تماسكهم الداخلي أمام الخطر الوجودي الذي يتهددهم جميعًا دون تمييز. بدا الهجوم السيبراني بأجوائه وسياقه، كما لو كان تمهيدًا لبدء العمليات العسكرية في أجواء فوضى وارتباك.
كانت تلك مفارقة لافتة في المشهد المأزوم. أخذت الخروق الأمنية الظاهرة مداها باستهداف اجتماع سري وصف بأنه نادر لعشرين شخصية قيادية في قوة «الرضوان»، نخبة النخبة في «حزب الله». كانت تلك ضربة استخباراتية قاسية أخرى نالت من إبراهيم عقيل مسؤول العمليات وثلاثة عشر قائدًا آخر.
طرحت التساؤلات القلقة نفسها بإلحاح حول الخروقات الأمنية، حجمها وتأثيرها في أية مواجهات عسكرية وشيكة، لكن لم يطرح هذا السؤال: لماذا لم تقتنص القوات الإسرائيلية الفرصة السانحة بالبدء في عملياتها العسكرية البرية؟ !الإجابة تستدعي النظر في الحقائق الماثلة.
كان توسيع نطاق الحرب ونقل مركز الثقل العسكري والاستخباراتي من غزة إلى الشمال، حيث الحدود الملتهبة مع لبنان قرارًا سياسيًا أصدرته حكومة بنيامين نتنياهو، لكنه يتطلب التحسب لمواضع الأقدام على الأرض قبل أي عملية واسعة أهمها ضمان الغطاء الأمريكي بالتواطؤ، أو التوريط.
استهدفت العمليات النوعية والاستخباراتية في المقام الأول، أن يجد «حزب الله» نفسه أمام معضلة يصعب تجاوزها، إذا صمت فإنها إهانة لا يحتمل تأثيرها الباهظ على صورته ووزنه وأدواره.. وإذا رد بما يمتلكه من قدرات صاروخية باليستية فإنها الحرب الواسعة والتورط الأمريكي الكامل مع القوات الإسرائيلية بذريعة حقها في الدفاع عن نفسها يصبح مطروحا بقوة.
هذا ما تسعى إليه بوضوح كامل حكومة نتنياهو لا تقدر إسرائيل على خوض مواجهتين عسكريتين في وقت واحد. هذه حقيقة بأي حساب.
يستلفت الانتباه هنا نقل قوات رئيسية من غزة إلى الشمال، في نفس اللحظة التي أعلن فيها يحيى السنوار زعيم «حماس» تأهبه لحرب استنزاف طويلة. بحسب التقديرات الإسرائيلية فإن أي انسحاب من أي منطقة في غزة يعني على الفور تقدم «حماس» لملء الفراغ.
هكذا يجد الموقف الإسرائيلي نفسه مأزومًا بفداحة. لا بوسعه حسم حرب غزة، رغم جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتجويع المنهجي ضد سكانها، ولا هو متاح تأمين شريط حدودي داخل الجنوب اللبناني يؤمن عودة المستوطنين إلى الشمال.
كيف يعودون إذن؟! إن فكرة الشريط الحدودي نفسها شبه مستحيلة موضوعيًا .إنها تعني -أولًا- مواجهات برية شرسة لا تقدر على تحمل تكاليفها وأعبائها قواتها المنهكة، التي لا ترى أمامها أفقًا لحل.
كما تعنى -ثانيا- إنتاج الفشل نفسه الذي عانت منه عندما أنشأت برعايتها تدريبًا وتمويلًا عام (1978) في سنوات الحرب الأهلية ما أطلق عليه «جيش لبنان حر» بقيادة «سعد حداد» و«أنطوان لحد» من بعده.
لا حقق الشريط الحدودي، الذي تمركزت فيه تلك المليشيات أمنًا مستتبًا لإسرائيل.. ولا المليشيات حافظت على وجودها.
يستلفت الانتباه مرة أخرى أن فكرة الشريط العازل جرى طرحها من جانب «نتنياهو» لليوم التالي في غزة. لم تكن الإدارة الأمريكية مستعدة أن توافق على فكرة محكوم عليها بالفشل المسبق.
المفارقة الكبرى أنه بعد نحو عام من الحرب على غزة لم يحقق «نتنياهو» أيًا من أهدافه الأساسية، فإذا به يضيف هدفًا جديدًا يصعب تحقيقه هو الآخر .حاول القفز فوق حقائق غزة، وعدم رغبته في التوصل إلى صفقة تنهيها، وتنهي في الوقت نفسه الاشتباكات الحدودية في الشمال والمواجهات التي لا تتوقف في البحر الأحمر.
إسرائيل ليست مهيأة لحرب جديدة، فهي منهكة عسكريًا واقتصاديًا ومهزومة استراتيجيًا وأخلاقيًا، لكنها تغامر من أجل مصالح سياسية لـ«نتنياهو» وحليفيه المتطرفين «ايتمار بن غفير» و«يتسلئيل سيموترتش» .في الهروب إلى الشمال أعطيت التعليمات للمستوى العسكري بالتأهب لفتح جبهة جديدة، قبل أن يعلن رئيس الأركان الإسرائيلي «هرتسي هليفي» أنه قد صدق فعلًا على خطة العمليات .مع ذلك كله فالحرب ليست خيارًا سهلًا أو متاحًا من دون تكاليف وعواقب.
رغم النجاح الظاهر للضربات الاستخباراتية، فإن حدودها قد لا تمس جوهر الاستراتيجيات وقدرة «حزب الله» على استيعابها وتصحيح أوجه الخلل، التي سمحت بالخروق الأمنية الفادحة.
بحسب إشارات متواترة فإن الحزب تنبه إلى خلل ما في أجهزة اتصالاته، وكاد يصل إلى الحقيقة ويعطل مفعول عمل استخباراتي طويل ومعقد استغرق شهورًا. صدر قرار تفجير أجهزة «البيجر» دون أن يكون الجيش الإسرائيلي مستعدًا لبدء العمليات قبل أن يفجر في اليوم التالي أجهزة الـ«ووكي توكي أيكوم»، ويَسقط ضحايا آخرون.
يحاول «نتنياهو» التخفف من عبء إعادة الرهائن بصفقة لصالح فكرة أخرى يصعب تحقيقها بذريعة إعادة أكثر من (700) ألف مستوطن بأمان إلى منازلهم، التي أخليت بأثر الاشتباكات الحدودية المتصلة بعد السابع من أكتوبر (2023).
بالحسابات الأمريكية المعلنة فإنها تمانع في تلك الحرب خشية تداعياتها السلبية للغاية على استراتيجياتها ومصالحها بالشرق الأوسط، لكنها عالقة في انتخاباتها الرئاسية لا تعرف أين تقف؟ ولا ماذا تفعل؟
تتبنى الإدارة الأمريكية بوقت واحد موقفين متضادين. أحدهما، يعلن الوقوف مع إسرائيل وحقها المطلق في الدفاع عن أمنها، وهو يمهد لتورط لا تريده في حرب تضر بمصالحها.
وثانيهما، التحذير من مغبة الدخول في حرب مفتوحة جديدة على الجبهة اللبنانية قد تفضي إلى حرب إقليمية واسعة، لكنها لا تفعل شيئًا له تأثيره على حركة الحوادث.
السيناريوهات كلها مفتوحة على الأخطار المحدقة.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك