شهدت الضفة الغربية خلال الأسبوعين الأخيرين، تصعيدًا ملحوظًا في الهجمات الإسرائيلية العنيفة على البلدات الفلسطينية في جنين وطولكرم وغيرها، والتي خلفت دمارًا واسعًا، وأثارت إدانات من المجتمع الدولي. وسجلت تقارير الصحافة الغربية حجم الأضرار الفادحة التي لحقت بالمدنيين هناك، وهو ما وصفته صحيفة واشنطن بوست: بأنه مسار من الدمار، حيث استشهد ما لا يقل عن 36 فلسطينيًا، بينهم نساء وأطفال وكبار السن، ما سلط الضوء على تجاهل إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
وأكد مراقبون فداحة حجم ما خلفته هذه الهجمات من أضرار، حيث رأت ألكسندرا شارب من فورين بوليسي أنها واحدة من أطول عمليات إسرائيل وأكثرها تدميرًا في الضفة منذ سنوات، واعتبرتها منظمة العفو تصعيدا خطيرا وغير مسبوق للعنف يرقى إلى معاقبة جماعية لكافة الفلسطينيين. وأدانت الأمم المتحدة ما أسمته الأساليب الحربية القاتلة ضد المدن الفلسطينية، وخاصة بعد أن شملت الانتهاكات قتل أطفال وكبار سن، ومواطنة أمريكية من أصل تركي. ورغم اعتراف إسرائيل بدورها في مقتلها، حاولت واشنطن تبرير استخدام إسرائيل للقوة المميتة ضد المدنيين، ورفضت ضغوطا لمحاسبة حكومة نتنياهو.
وأفاد بيثان ماكيرنان وسفيان طه من الجارديان بوجود دمار غير مسبوق في جنين، إذ تجري مياه الصرف الصحي عبر الشوارع والمباني المحترقة، وانقطعت المياه والكهرباء، ودُمرت البنية التحتية، ما أدى إلى توقف سيارات الإسعاف، وسلطت لوسي ويليامسون ورافي بيرج من شبكة بي بي سي الضوء على تدمير الطريق الرئيسي في جنين، بينما ذكرت واشنطن بوست أن الكلفة التقديرية للأضرار تجاوزت 13 مليون دولار، مع تقديرات إجمالية تزيد على 26 مليون دولار تُضاف إلى كلفة إعادة الإعمار المتوقعة.
وأشار محللون إلى أدلة تجاهل إسرائيل لحقوق الإنسان والقانون الدولي، ففي تقرير عن الظروف المروعة في جنين ومخيمات اللاجئين، لاحظ ماكيرنان وطه أن حوالي 20 ألف شخص تُرِكوا محاصرين في منازلهم دون ماء أو كهرباء أو طعام. وأن أولئك الذين لم يتمكنوا من الفرار إلى القرى المجاورة قد طردوا عنوة من قبل القوات الإسرائيلية التي حطمت المنازل التي فتشتها أو استولت عليها كقواعد. كما أُشير إلى منع الجيش الإسرائيلي للمنظمات الإنسانية التي حشدها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من دخول جنين، ما حال دون تقييم الوضع وإدارة المساعدات والدعم.
وإضافة إلى ذلك، أبرزت وسائل الإعلام الغربية الانتهاكات الفردية لاستخدام القوة من قبل عناصر الجيش الإسرائيلي، حيث وثقت واشنطن بوست أدلة تلفزيونية تثبت إطلاق الجيش الإسرائيلي النار على المواطن المسن توفيق قنديل ذي الـ 83 عامًا في جنين، وكتب آرون بوكسرمان من نيويورك تايمز عن إطلاق النار على فتاة لا يتجاوز عمرها 13 عامًا وقتلها بينما كانت تشاهد من النافذة الاشتباكات.
أما مقتل أيسنور إيجي المواطنة الأمريكية التركية الأصل، التي انضمت إلى نشطاء من حركة التضامن الدولي للتظاهر إلى جانب الفلسطينيين في الضفة الغربية، جاء رد الحكومة الأمريكية على مقتلها مخيبًا للآمال مرة أخرى؛ حيث رفضت إدانة العنف الإسرائيلي حتى ضد مواطنيها، ووصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وفاة إيجي بأنها خسارة مأساوية، ورغم وصفه إطلاق النار بأنه غير مبرر، وحث على تغييرات جوهرية في سلوك إسرائيل، واعتبار شانتال دا سيلفا من إن بي سي نيوز هذا توبيخًا مباشرًا نادرًا من واشنطن، إلا أن هذا المثال يعكس نمطًا ثابتًا من إدارة بايدن في الفشل الأخلاقي تجاه انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، بما في ذلك ضد المواطنين الأمريكيين.
وهنا يجب مقارنة وفاة إيجي، ورد فعل البيت الأبيض على كيفية قتل الجيش الإسرائيلي للصحفية الفلسطينية الأمريكية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في الضفة الغربية مايو 2022، إذ بالرغم من أن لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلصت في أكتوبر 2023 إلى أن القوات الإسرائيلية استخدمت القوة المميتة من دون مبرر، لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) رفض إصدار أي من نتائجه بشأن التحقيق في وفاتها خلال عامين ونصف العام منذ ذلك الحين. وتكشف حالتا أبو عاقلة وإيجي، أن واشنطن لا يعنيها أهمية حقوق وسلامة مواطنيها بالمقارنة بمصالحها الحيوية مع إسرائيل وحمايتها من الانتقاد والمساءلة، وإذا كان البيت الأبيض مستعدًا للتضحية بذلك تجاه مواطنيه، فلا يمكن توقع أن تتخذ واشنطن إجراءات ذات مغزى لحماية حقوق الإنسان للفلسطينيين.
وفي ظل إخفاق واشنطن في اتخاذ التدابير العقابية اللازمة ضد إسرائيل بسبب انتهاكاتها المتكررة، يدرك المعلقون الغربيون أن فشل واشنطن في احترام القانون الدولي في الضفة الغربية، يشكل سببًا رئيسيًا وراء زيادة قدرة الجيش الإسرائيلي وتجرؤه على مهاجمة جنين وغيرها من المدن الفلسطينية ما دام ليس هناك عقاب أو رادع ضده. وأوضح ماكيرنان وطه كيف تفاقم الوضع المتدهور بالفعل في الضفة الغربية بشكل كبير منذ اندلاع الحرب في غزة؛ حيث يعامل الجيش الإسرائيلي المنطقة باعتبارها جبهة ثانوية، وأشارت شارب إلى كيف قُتل ما يقرب من 700 فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية منذ أكتوبر الماضي.
إن تحرك المستوطنين إلى الضفة الغربية في انتهاك واضح للقانون الدولي، وبحماية من الحكومة والآليات العسكرية الإسرائيلية، يعني أن ما يزيد على 700 ألف مستوطن يعيشون الآن في أكثر من 160 مستوطنة على استعداد لارتكاب نفس الاعتداءات في جميع أنحاء الضفة، وفي ضوء ذلك أشار بوكسرمان إلى أن 3 ملايين فلسطيني يعيشون بالفعل تحت سلطة الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ووثق جوليان بورجر وكويك كيرزينباوم من الغارديان كيف يفرض المستوطنون في الضفة حكمًا وحشيًا في المناطق المحتلة؛ حيث أقاموا حواجز على الطرق وهاجموا الفلسطينيين لطردهم بالقوة من منازلهم.
وكانت محكمة العدل الدولية قد قضت في يوليو الفائت، بناء على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأن مثل هذه المستوطنات الإسرائيلية تنتهك القانون الدولي، وأن من مسؤولية حكومة نتنياهو وقف توسعها، وإنهاء احتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية، ووقف التمييز المنهجي القائم على العرق والدين والأصل العرقي. ولم يكن من المفاجئ أن يرد نتنياهو على هذا الحكم بوصم المحكمة بأنها كاذبة، والإصرار على أن الشعب اليهودي ليس غزاة لأرضه، كما لم يكن مفاجئًا أن ترفض إدارة بايدن نتائج المحكمة، رغم تصريحات وزارة الخارجية الأمريكية بأن برنامج إسرائيل لدعم المستوطنات يتعارض مع القانون الدولي، لكنها رأت رغم ذلك أن رأي المحكمة من شأنه أن يعقد جهود حل الصراع.
ومع رفض الولايات المتحدة انتقاد سلوك الجيش الإسرائيلي أو انتهاكاته المتكررة للقانون، واستخدام أي عذر لتعزيز مصالح إسرائيل، فقد ترسخ واقع على الأرض؛ حيث يمكن لإسرائيل مهاجمة البلدات التي تريدها من دون أي مساءلة دولية أو عواقب في علاقاتها مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها.
وعلى العموم، وبينما تشير تقارير الصحافة الغربية إلى أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على الضفة الغربية أدت إلى تدمير هائل ومعاناة إنسانية خطيرة من دون أي مساءلة دولية ملموسة، ومع استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل وتبرير أفعالها، يبدو أن الانتهاكات ضد الفلسطينيين ستظل تتفاقم، مما يبرز الحاجة الملحة إلى تحرك دولي فعال لحماية حقوق الإنسان وضمان العدالة في المنطقة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك