مع اقتراب الحرب الإسرائيلية ضد غزة من ذكراها السنوية الأولى، وغياب أي أمل بالأفق للتوصل إلى وقف الحرب كخطوة أولى تتبعها خطة سلام دائمة من شأنها حل الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ ندد المراقبون الغربيون مثل ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد بـالانحدار الخطير في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي وآلية تطبيقه، والذي جاء على حساب الاستقرار الإقليمي، بل وأيضًا المصالح الأمنية الإسرائيلية على المدى الطويل.
ولفت إلى أن اتباع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي مصلحته الشخصية وإطالته لأمد الحرب لحماية مستقبله السياسي، وكذلك زيادة الحماس لدى حلفائه من اليمين المتطرف -مثل: بتسلئيل سموتريتش وزير المالية، وإيتمار بن غفير وزير الأمن القومي- لتوسيع نطاق الحرب إلى لبنان وما بعده؛ قد أدى إلى تعزيز الأهداف الاستراتيجية للنظام الإيراني.
وعبَّر عن هذه الحقيقة دينيس روس مبعوث السلام السابق إلى الشرق الأوسط في مجلة فورين بوليسي؛ وأكد أن قرارات حكومة إسرائيل تخدم مصالح قادة إيران، الذين يعترفون بأنهم يلعبون لعبة طويلة فيما يتعلق بالصراعات الإسرائيلية المستمرة في لبنان، والضفة الغربية؛ وغزة، لتعزيز طموحاتهم الإقليمية.
وأصاب روس في تأكيده تقويض الاعتداءات الإسرائيلية للأمن والاستقرار في مختلف أرجاء المنطقة، والتي صبت في صالح إيران بشكل عام، بيد أن اقتراحاته بشأن كيفية عكس هذا الاتجاه ــ بدءًا بوقف إطلاق النار في غزةــ تشترك في المشكلة نفسها التي تعاني منها التعليقات الغربية الأخرى على الحرب، والتي تخطئ في تقييمها لنوايا نتنياهو بالالتزام بمواصلة الحروب في المنطقة بغض النظر عن التكلفة التي قد تترتب على أمن بلاده واستقراره الإقليمي الأوسع.
وفي تفسير روس لاستراتيجية إيران والمتمثلة في إبقاء إسرائيل رهينة لضغط مستمر واستهلاكها في صراعات مستمرة على حدودها؛ فقد رأى أن الممارسات الإسرائيلية وأفعالها الرامية إلى توسيع نطاق الحرب في غزة قد أضفت الشرعية على هذه الاستراتيجية.
والواقع أن تباهي نتنياهو بكيفية محاربة بلاده لأعداء متعددين في حرب على سبع جبهات لا يعكس قوة إسرائيل المفترضة والتي تضاهي قوة جيرانها؛ بل لهو دليل على ضعفها الاستراتيجي التي خلقته بنفسها من خلال الانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني وأعماله العدوانية بهدف زعزعة استقرار المنطقة. وبالرغم من أن إسرائيل هي التي دأبت على تصعيد الصراع بمختلف أنحاء المنطقة، إلا أن روس قد أكد أن ائتلاف نتنياهو يلعب وفقًا لشروط إيران وليس لشروطه.
ففي غزة نفسها، وعقب ما يزيد على أحد عشر شهرًا من القتل والتدمير والغزو البري ثم الاحتلال، أخفق الجيش الإسرائيلي في تحقيق هدفه المعلن المتمثل في تدمير حماس، وهو ما حذر منه الخبراء الغربيون في بداية الحرب باعتباره خيارًا خياليًا. ورغم إقرار الجيش الإسرائيلي بتلك الحقيقة، إلا أن تدمير غزة استمر بلا هوادة؛ مما أسفر عن استشهاد أكثر من 42 ألف مدني فلسطيني، وأضرار مادية ستكلف عشرات المليارات وعقودًا عديدة لإصلاحها. وفي حين زعم روس أن الجيش الإسرائيلي على مقربة من ادعائهم بأنهم دمروا حماس كقوة عسكرية في غزة، إلا أن بيفرلي ميلتون إدواردز من مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، قد أكدت أن الجماعة تبقى عملاقة، وبمنأى عن الهزيمة وأنه خلال الحرب قد تضررت صورة إسرائيل العسكرية بشدة، وخاصة بسبب حقيقة مباغتتها بهجوم 7 أكتوبر 2023.
أما في لبنان، فقد أشار جوليان بارنز دايسي وحامد رضا عزيزي من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى أن حرب الظل بين إيران وإسرائيل أصبحت أكثر وضوحًا فيها؛ حيث كانت هناك جولات متعددة من التصعيد خاصة بعد التهديدات الإسرائيلية بغزو جنوب البلاد واستخدام الضربات الجوية والصاروخية ضد حزب الله والأصول والأفراد الإيرانيين. وفي هذا السياق، رأى روس أن حزب الله هو الوكيل الوحيد الذي لا تستعد إيران للتضحية به خلال صراعها ضد إسرائيل، كما أوضح بارنز دايسي وعزيزي أن تركيز طهران على الحفاظ على نفوذها وقدراتها الردعية يوفر بالفعل فرصًا لمنع حرب أوسع نطاقًا.
وعلى الرغم من أن توماس جونو أستاذ مساعد الشؤون العامة والدولية في كلية الدراسات العليا بجامعة أوتاوا قد أشار إلى أن طهران وحزب الله لا يستطيعون تحمل حرب شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل وذلك لأنهم أكثر ضعفًا من الناحية المادية والاقتصادية، رغم تأكيد علي فائز مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية، أن التأخيرات في رد إيران على الاستفزازات الإسرائيلية في لبنان تؤكد أن خياراتها للرد تتراوح بين السيئة والكارثية، إلا أنه مع كل ذلك تبقى الاغتيالات الإسرائيلية والضربات الجوية والتهديدات بغزو حزب الله لا تحقق أي فائدة استراتيجية.
وأكد روس أن كلًا من إيران وحزب الله لا يزالان يصران على إبقاء إسرائيل تحت ضغط مستمر وحروب استنزاف، كما اعترف بأن إسرائيل قد تنهار تحت هذا الضغط، مشيرًا إلى أن حكومة نتنياهو بحاجة إلى استراتيجية جديدة يتم وضعها قيد التنفيذ بدءًا بإنهاء الحرب في غزة. لكن تلك الفرضية تبقى مثيرة للشك بسبب محاولات نتنياهو تأخير مفاوضات وقف إطلاق النار، وآخرها رفضه الاعتراف بوضع ما بعد الحرب على الحدود بين غزة ومصر. وقد أشارت جينيفر روبين من صحيفة واشنطن بوست، إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يفضل استمرار الحرب على مواجهة ائتلافه بشأن خطة لما بعد حرب غزة، متخذًا خطوات استفزازية في المقابل لعلمه بأن الأمريكيين سيتدخلون لإنقاذ إسرائيل عندما تنتقم إيران.
وبالنظر إلى ما يجب على الولايات المتحدة فعله في هذه الحالة، أشار روس بأن الإدارة القادمة في البيت الأبيض - سواء كانت بقيادة كامالا هاريس أو دونالد ترامب - يجب أن تكون مستعدة لاتخاذ خطوات تجعل الخيارات الصعبة لفرض السلام بالنسبة إلى إسرائيل أكثر سهولة، وذلك للتبرير أمام صانعي السياسية الأمريكية الذين لا يزالون ملتزمين بدعم حروب إسرائيل على الرغم من المعاناة الإنسانية الهائلة، والأضرار المادية، وعدم الاستقرار الجيوسياسي الذي تسببت فيه.
ومع ذلك، فإن مثل هذا الحل المعقد يتجاهل الواقع، ليس فقط في كيفية استمرار قادة إسرائيل في تأكيد أنهم يسيطرون على هذه الأراضي، ولكن أيضًا يتجاهل حقيقة أن الإدارتين المحتملتين قد أوضحتا التزامهما بمساعدة إسرائيل ورفض تغيير حماية إدارة بايدن لإسرائيل من المساءلة الدولية.
وعلى العموم، مع وجود هذا التحول في الموقف الأمريكي الذي يأمل روس في حدوثه والذي من المحتمل أن يقابل ببرود من قبل نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف، فإن استمرار الحرب في غزة وتوسيع الحروب في المنطقة، ولا سيما في لبنان، هو شهادة ليس فقط على تنفيذ الاستراتيجية الأساسية لإيران المتمثلة في إرهاق إسرائيل جراء مزيد من الأزمات التي تكلفها خسائر عسكرية وتعزلها سياسيًا على الساحة الدولية، ولكن أيضًا دلالة على ما اعتبره والت سياسة خلق مشكلات لا تنتهي، إن لم تكن كارثية لإسرائيل.
إن تصاعد ما يسمى بـ«حرب الظل» بين إيران وإسرائيل في المنطقة له تداعيات كبيرة على الأمن والاستقرار الإقليميين، ولكن عمل القادة بطريقة تحافظ على سلطتهم الشخصية على حساب معاناة الملايين وحتى على حساب المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد نتنياهو مثالا، يبرز كيف أصبحت الجهود الدبلوماسية الخارجية، مثل تلك التي تقوم بها الدول الغربية، غير قابلة للتطبيق في المنطقة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك