قد نشعر بأن الإيمان المطلق بصحة أفكارنا يضفي علينا نوعا من الطمأنينة العقلية، ولكن هذا الإيمان قد يتحول إلى فخ يمنعنا من رؤية الحقيقة بوضوح. ذلك أن (التمسك بالصوابية) هي حالة من التشبث المفرط بالرأي إلى درجة تعيق الفرد عن تقبل النقد أو التفكير في احتمالية خطئه.
في البداية، هذا الإصرار قد يوفر شعورًا بالراحة والثقة، لأنه يمنحنا وهما بأننا نعرف كل شيء. ولكن مع مرور الوقت، تتحول هذه الثقة إلى عائق أمام تطورنا. عندما نعتقد أن ما نعرفه هو الحقيقة الوحيدة، نغلق الباب أمام تساؤلات قد تكشف لنا جوانب جديدة. وكما قال ابن رشد: «الحقيقة لا تضاد الحقيقة، بل توافقها وتشهد لها». فالحقيقة ليست حكرًا على رأي واحد، بل هي نتاج تفاعل وتبادل للآراء المختلفة.
في حياتنا اليومية، نجد أمثلة لا حصر لها على تأثير الصوابية. في وسائل التواصل الاجتماعي، ينغلق الأفراد على وجهات نظرهم ويشكلون فقاعات فكرية تعزز اعتقادهم بأنهم على صواب دائم. هذه الظاهرة تؤدي إلى انقسامات واضحة في المجتمعات حول قضايا سياسية واجتماعية. على سبيل المثال، النقاشات أو اللغط حول قضايا معينة يقود إلى خلافات عميقة، نجد أن التمسك بالصوابية في النقاش يحول الحوار إلى ساحة معركة بحيث يسعى كل طرف إلى إثبات أنه الوحيد الذي يملك المعلومات الصحيحة والدقيقة.
من الناحية النفسية، الصوابية ليست إلا درعا نحتمي به من احتمالية الاعتراف بأننا قد نكون مخطئين. هذا النوع من التفكير يحمي الأنا، ويجعل الفرد يشعر بالسيطرة على العالم من حوله. لكن الاعتراف بالخطأ قد يبدو صعبا، إلا أنه السبيل الوحيد نحو النمو والتعلم. كلما تشبثنا بمعتقداتنا دون التحقق منها ومنحها فرصة للخطأ، زادت احتمالية أن نبقى عالقين في دائرة مغلقة، نعيد فيها تكرار الأفكار نفسها دون أي تقدم.
في بيئة العمل، نجد أن الصوابية قد تكون أحد أكبر العوائق أمام التقدم والإبداع. فرق العمل الناجحة تعتمد على النقاش المفتوح والمرونة في الأفكار. حين يعتقد الأفراد أنهم يمتلكون الصواب المطلق، يعيقون تقدم الفريق، ويصبح التعاون شبه مستحيل. تخيل كيف سيكون حال فريق عمل حيث لا أحد يستمع أو يقبل بتغيير رأيه. هنا تصبح الصوابية أكبر أعداء العمل الجماعي المنتج.
الأخطر من ذلك هو تأثير الصوابية على المستوى الاجتماعي. وقتما تؤمن مجموعة ما بأنها وحدها المحقة، يتشكل نوع من التعصب الذي يقود في نهاية المطاف إلى التطرف. الصوابية تزرع بذور الانقسام، حيث تنمو في بيئة مغلقة لا تسمح بالنقاش المفتوح. مثال على ذلك يمكن أن يؤدي التمسك الشديد بأيديولوجية معينة إلى نشوء حركات متطرفة تسعى إلى فرض أفكارها بالقوة، مثل الجماعات التي تلجأ إلى العنف ضد من يخالفها الرأي مما يهدد التماسك والسلم المجتمعي.
من المفيد أن نسعى دائما لتطوير قدرتنا على الإصغاء، سواء للآخرين أو لأنفسنا. الإصغاء إلى تلك الأصوات الداخلية التي تدفعنا أحيانا إلى التفكير مجددًا في قناعاتنا، خاصة عندما نشعر بالثقة الزائدة فيها. العلاقات الإنسانية تزدهر في ظل التواضع الفكري، حيث يصبح من الصعب بناء علاقة صحية عندما يسيطر رأي واحد على الحوار. كلما انفتحنا على آراء الآخرين، أصبحت علاقاتنا أكثر قوة وتماسكا.
التخلص من فخ الصوابية، يتطلب شجاعة الاعتراف بأننا قد نكون على خطأ، وأن أفكارنا ليست حصونا منيعة. كلما زادت قدرتنا على قبول النقد، اقتربنا من الحقيقة. فالحقيقة ليست محطة نصل إليها، بل هي عملية مستمرة من البحث والتعلم، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالانفتاح والشك البناء وهو ما يفتح الباب لتطور التفكير العقلاني في المجتمعات ويمكِّنها من التقدم إلى الامام باستمرار بدلا من الدوران في دوائر مفرغة من الجدال العقيم والجمود الفكري.
في النهاية، يجب أن نفهم أن التمسك بالصوابية ليست قوة، بل هي ضعف يغلق عقولنا ويمنعنا من النمو. في زمن تشتد فيه الحاجة إلى التفكير النقدي والإبداعي، علينا أن نكون أكثر استعدادًا للشك في رؤانا، لأن في هذا الشك تكمن الحقيقة. وكما قال جون ستيوارت ميل: «إذا كان كل البشر ما عدا شخص واحد يتفقون على شيء، فإن الحق ليس بالضرورة معهم».
الحقيقة هي ما نصنعه من حوارنا المستمر، وما نكتسبه من تواضعنا الفكري.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك