يعرف مفكّرون ومناضلون كثيرون كتاب فرانز فانون الشهير «المعذّبون في الأرض»، الذي يشرح فيه عقلية المستعمرين، وأساليب تكريسهم للعنف في قمع الشعوب المستعمَرة، بما في ذلك الأيديولوجيا التي تحرّم على المُستَعمَرين حقهم في استخدام العنف المضاد ضد من يضطهدونهم.
ولو كان فانون الذي كرّس حياته ونضاله وفكره لتحرّر الشعوب، وخصوصاً شعب الجزائر الذي كان يناضل للتحرّر من الاستعمار الفرنسي، حياً، لوجد في سلوك الفاشية الإسرائيلية، والداعمين لها في الغرب، مادّة خصبة لأكثر من كتاب. والواقع أن المنظومة الإسرائيلية الصهيونية، وحتى قبل أن يكتمل نضجها قوة فاشية، حاولت ترسيخ حدود وتقاليد وخطوط حمراء غير مسموح بتجاوزها، في علاقتها بالشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى.
وهذه بعض أركانها:
أولاً: إن إسرائيل، وباستغلال ما تعرّض له اليهود من اضطهاد لا سامي أوروبي، أو روسي، ووصل إلى ذروته في الهولوكوست البغيض الذي نفّذه النازيون في ألمانيا، تحاول احتكار صفة الضحية الدائمة وصورتها وروايتها في أي خلافٍ أو صراع لها مع أي طرف آخر، وخصوصاً الشعب الفلسطيني. ومضمون ذلك أن إسرائيل (الحركة الصهيونية) تبقى بريئة حتى لو ارتكبت جرائم حرب لا سابق لها ضد المدنيين. بل إنها تروّج فكرة أنها، بصفتها «الضحية» الدائمة، تملك رخصة للقتل والبطش والاضطهاد، ولا يحقّ لأحد انتقادها، وأن فعل، فإن تهمة اللاسامية جاهزة لتوجه ضدّه.
ثانياً: لإسرائيل، رغم أنها كيانٌ يمارس الاحتلال والتطهير العرقي، حقّ الدفاع عن النفس، ولكن لا يحقّ لضحاياها امتلاك الحقّ نفسه، ولا يمر يوم من دون أن يخرج رئيس دولة أو رئيس وزراء غربي من دون أن يؤكّد «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس»، ولا يأتي على حقّ الفلسطينيين في هذا، ولو مرّة.
ويبدو المشهد هنا سوريالياً للغاية، إسرائيل التي هجرت 70% من الشعب الفلسطيني عبر المذابح والقتل والتهويد، ودمّرت 520 قرية وبلدة فلسطينية، ثم استولت، بعدوان عسكري على رؤوس الأشهاد، على ما تبقى من فلسطين باحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزّة، بالإضافة إلى القدس العربية، بل أضافت الجولان السوري المحتل، لها حقّ الدفاع والهجوم والقصف والقتل، ولكن لا يحقّ للضحية الحقيقية (الشعب الفلسطيني والسوري واللبناني) الردّ والدفاع عن نفسه وإلا اتُّهم بالإرهاب.
ثالثاً: إسرائيل في حالة افتقار مزمن للأمن، والحاجة إلى الأمن ذريعة جاهزة في كل المفاوضات والمباحثات، والمجابهات لتبرير التعنّت والعناد الإسرائيلي الذي أفشل تاريخياً كل محاولة للوصول إلى سلام في المنطقة.
رابعاً: في أي مواجهة أو معركة، وحتى لو وصل الأمر إلى قتل 51,000 فلسطيني، بمن في ذلك 17 ألف طفل شهيد، من غير المقبول أو المبرّر وقوع قتلى أو جرحى إسرائيليين. وبحسب ذلك المنطق، القتلى والمصابون يجب أن يكونوا من جانب واحد، أي من خصم إسرائيل أيًّا كان، فكل دم يهودي أو إسرائيلي مقدّس، أما دماء الفلسطينيين حتى لو كانوا أبرياء تماماً من المشاركة في أي فعل مقاوم فلا قيمة أو اعتبار لها.
وما زالت وسائل الإعلام الغربية الرئيسية تتبارى في وصف معاناة الأسرى الإسرائيليين الذين وقعوا بيد المقاومة الفلسطينية، ولكنها، في غالب الأحيان، لا تذكر شيئاً عمّا لا يقل عن 15 ألف أسير فلسطيني، حتى عندما يُعدم من يعدم منهم ميدانيا، أو يعذّبون حتى الموت، أو يزجّون في معسكرات اعتقال مزدحمة، وهم معرّضون للتجويع والإذلال والقتل والاغتصاب والتحرّش الجنسي.
خامساً: تحرّم المنظومة الأيديولوجية – الإسرائيلية، وبعض الرسمية الغربية، على الفلسطينيين حقّ النضال، ليس فقط بالكفاح المسلح (العنف المسلح)، بل بكل الأشكال الأخرى، بما فيها المقاومة الشعبية والمقاومة السلمية، وحتى المقاومة بالكلام.
ورغم أن القانون الدولي يشرّع، بشكل قاطع، لمن هم تحت الاحتلال حقّ النضال بكل أشكاله، بما في ذلك الكفاح المسلح، ما داموا يحترمون القانون الدولي والقانون الدولي الانساني ويلتزمون بهما، ويبتعدون عن الاستهداف المقصود للمدنيين والأطفال، فإن الفلسطيني ومن يناصره معرّضان لحزمة جاهزة من الاتهامات إذا ما حاول مقاومة الظلم الذي يتعرّض له. وإذا مارس الكفاح المسلح يوصَف بالإرهاب، وإذا مارس المقاومة الشعبية يتّهم بالعنف، وإن قاوم بالكلام والكتابة يُتّهم بالتحريض، وإن كان أجنبيا يتضامن مع الفلسطينيين سيُتّهم بالعداء للسامية، وإن كان يهودياً يتضامن مع الشعب الفلسطيني يُتّهم بأنه يهودي كاره للنفس.
أما عندما يُطرَح على المسؤولين الإسرائيليين السؤال عن العدد الهائل للمدنيين والأطفال والنساء والأطباء والصحفيين الذين يقتلونهم، فالجواب جاهز، وهو أن المسؤولية تقع على الفلسطينيين أنفسهم، أي أن الفلسطينيين مسؤولون عن جعل الإسرائيليين يقتلونهم، وأكثر الذرائع تزويراً للحقائق ادّعاء أن المقاومين الفلسطينيين يستخدمون المدنيين دروعاً بشرية. ولم تفلح عشرات الحالات التي استخدم فيها الجيش الإسرائيلي المدنيين الفلسطينيين العزّل دروعاً بشرية، والتي جرى توثيقها ونشرها وتقديمها للإعلام الغربي، في تغيير رأيه، أو تعديل الرواية الإسرائيلية المضلّلة.
وتعتمد السردية الإسرائيلية على حزمة جاهزة من الادّعاءات والمفاهيم، وحتى التعابير اللغوية الجاهزة دائماً للاستعمال، من ادّعاء أن إسرائيل هي الضحية، إلى اتهام الفلسطينيين بالإرهاب، إلى تشويه كل صور النضال الفلسطيني.
ويبدو الهدف المركزي للدعاية الإسرائيلية وضع الفلسطينيين أو أي طرف يعارض إسرائيل في موقف الدفاع عن النفس، والاضطرار إلى تقديم المبرّرات والذرائع لما هو حقّ طبيعي لكل مظلوم بالدفاع عن نفسه. وما من شك في أن جوهر العقلية الاستعمارية هو تحريم الحقّ في النضال والكفاح على من هم ضحيتها، ومحاولة تكريس شعور نفسي داخلي عميق لدى الضحايا بالدونية والشعور بالذنب.
ولا يمكن كسر حالة الحصار الذهني والفكري التي يحاول المضطهدون فرضها على الضحية، إلا برفض المنهج الاستعماري من رأسه إلى أخمص قدميه ورفض سردية المضطهد أو المحتل وروايته. وأول خطوة في تحقيق الحرية من الاحتلال والاضطهاد هي التحرّر الفكري من مقولاته ودعايته ومعاييره ومفاهيمه، بل من مصطلحاته التي يحاول فرضها.
وكما حرّر فانون نفسه من تلك المقولات، فإن من واجب كل المناضلين الفلسطينيين، والمتضامنين معهم، تحرير عقولهم منها ومن مخلفاتها الفكرية، وتلك هي البداية لشقّ طريق الحرية الحقيقية.
{ الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك